كلمات قلقة – بقلم حسين درويش

3152020

صفحات من تجربة سفر في زمن كورونا

كان القلق يتدحرج مثل كرة ثلج.. تكبُر  وتكبُر وتضغط على الأعصاب بقسوة كلما اقتربنا من بوابة مطار دبي، حيث بدا المبنى العملاق مثل هرم تاريخي، خاصة وقد خفتت الأضواء داخله، وبدت ممراته الداخلية معتمة، فقط مجموعة صغيرة من الموظفين يرتدون ثيابهم الرسمية ويضعون الكمامات ويقفون بشكل متباعد، وهذا ما عليك فعله عندما تنظر إلى الأرضية الرخامية ستجد رسماً لقدمين عليك الوقوف فوقهما تفصلانك عن مسافر أخر مسافة مترين، ثم يدلك موظف شاب إلى مسار إجباري ويشير بأصابعه التي تغطيها القفازات إلى مسلك عليك السير فيه للعبور داخل إطار معدني يشبه باب الغرف المنزلية حيث تتم قراءة درجة حرارتك الداخلية للتأكد من أنك لا تعاني من أحد أعراض المرض المرعب كوفيد 19.

دهشة المسافر ستتضاعف عندما تسأل موظفة شركة طيران الإمارات عن وجهتك هذا الصباح، فبعد أشهر من توقف الرحلات الجوية من وإلى دبي ،ها هي الناقلة العملاقة تُرسل هذا اليوم طائرتين نحو أميركا الشمالية، بتوقيت متقارب واحدة نحو شيكاغو والأخرى نحو تورنتو، ومن ثم ستطلب الموظفة من كل مسافر أن يعطيها جواز سفره قبل وصوله إلى شباك وزن الحقائب، وستطلب بلباقة من كل مسافر يقف أمامها تنحية القناع الواقي جانباً وتمعن النظر في وجهه وتطابق صورته مع صورة جواز سفره، وخلال ثوانٍ معدودات تتمنى له رحلة سعيدة، وبيدها الصغيرة ذات القفاز الداكن تشير نحو شباك قريب لتكمل إجراءات سفرك نحو كندا، لكن قبل ذلك تعترض طريقك موظفة أخرى أقصر قامة وتعطيك علبة كرتونية حمراء فيها مستلزمات للسفر (زوجان من القفازات البلاستيكية بقياسين مختلفين، وقناعين أزرقين للوجه، ومنديلين ورقيين مبللين بمادة مطهرة، وكيسين صغيرين من مادة معقمة لليدين) بعدهاتنطلق نحو شباك وزن الحقائب.

من كان يعتقد أن مطار دبي الذي يعبره عشرات الملايين كل سنة أصبح خالياً هكذا.. مسافرون قلائل.. موظفون قلائل.. السوق الحرة مغلقة، المطاعم والمقاهي متاجر الملابس والتذكارات كل الأمكنة بدت خالية سوى قاعة الانتظار التي تم اختصار مقاعدها للنصف تقريباً لتناسب عدد المسافرين الذين سيصعدون للطائرة.. مقاعد غير متجاورة ولا أحد يجلس قرب الأخر، ولأن موعد الصعود للطائرة لم يحن بعد، انشغل كل مسافر بهاتفه فبدا المشهد كأنه فيلم سينمائي لكائنات فضائية أو مخلوقات مرعبة تضع أقنعة وترتدي قفازات وتتدلى من رأسها أسلاك لسماعات حُشرت في الآذان، مخلوقات بعيون ذابلة من شدة القلق، ولعل المرء يتساءل أي هلع تخبئهالوجوه خلف أقنعتها، هلع من مجهول غير مرئي يتربص في كل مكان، قاد العالم نحو جنون الارتياب، الارتياب من سعال خفيف أو عطسة غبار أو حلق جاف.. من كان يظن أن الاستيقاظ كل صباح يعني يوماً أخر يضاف إلى أعمارنا النازفة، أو يضاف إلى رصيد الخوف في حساب البشرية.

للوهلة الأولى يظن المسافر أنه في ممر إحدى المستشفيات، فقد بدت المضيفة بمئزرها الأبيض الذي وضعته فوي ثيابها الرسمية وكمامتها التي تغطي معظم وجهها وقفازها البلاستيكي الأبيض، بدت أقرب إلى الممرضة لولا قبعة حمراء تحمل شعار طيران الإمارات لظن المرء أنه في ممر مستشفى وليس ممراً بين مقاعد الطائرة الكبيرة والتي تباعد الركاب على مقاعد الدرجة السياحية حيث يفصل مقعد فارغ بين مسافر واخر، في حين كانت مقصورة رجال الأعمال شبه خاوية ولم يكن للرفاهية حضور بما تعنيه هذه الدرجة،حيث لا مناديل ساخنة لمسح اليدين أو عصائر أو غيرها فقط مقعد مريح ولائحة طعام معلب ووسادة وغطاء للراغبين في النوم خلال الساعات الأربعة عشرة المقبلة من عمر هذه الرحلة بين دبي وتورنتو..

يمر الوقت بطيئاً على متن الطائرة وأنت تراقب الشاشة التي أمامك وتبدأ البحث عن فيلم أو أفلام تسليك ويكاد بحثك يشبه النبش عن قشة في حقل ذرة، حيث لا مطبوعة تدلك على أحدث الأفلام، أو أجملها، عليك البحث بنفسك بقفازك الذي يعيق حركة أصابعك، وعليك أن تهدأ غضبك وأنت تتنفس بصعوبة من خلف قناعك، ولا مناص من السفر بالكمامة اتقاء لعدوك الذي يختبئ في الهواء رغم قناعتك ان أجهزة ترشيح الهواء في الطائرة تعمل على تنقيته من الفيروسات بنسبة تتجاوز الـ 99 بالمئة، لكن من يضمن أنك لن تكون ضحية 1%. كان الرعب رفيقك وتسليتك وأحد أكبر مستقبليك عند وصولك إلى تورنتو.

تنظر إليك موظفة الهجرة في مطار تورنتو بعينين محايدتين دون كمامة دون قفاز، دون خوف، وتسألك الأسئلة الاعتيادية: من أين أتيت، هل لديك أطعمة، هل لديك مواد ممنوعة؟، ثم تسألك أسئلة غير اعتيادية: هل لديك حرارة، هل تسعل، أين ستقيم، وكأنها تعرف سلفاً كل أجوبتك، لذلك تختم استقبالها لك بعبارة جافة وجادة تشبه سؤالاً تحذيرياً (هل تعرف أنه يتوجب عليك عدم مغادرة بيتك لمدة 14 يوماً، حسب القانون الكندي؟).

من غرفة تطل على حديقة خلفية، ثمة بقايا مطر صباحي على النافذة، وثمة شمس خجولة تدفع دفئها نحو العشب، أرقب العصافير السعيدة، الحرة، الشجاعة، عصافير لا تعرف الهلع ولا تخاف من المستقبل، في تلك الغرفة العلوية أفكر بقيمة الحياة في ثامن أيام الحجر المنزلي، وأكتب هذه الكلمات بقلق منتظراً يومي الرابع عشر..

* شاعر وصحفي