رحلة النيل – شعر إدريس جماع

النيلُ من نشوة الصهباءِ سَلْسلُهُ

وساكنو النيلِ سُمّار ونُدْمانُ

وخفقةُ الموجِ أشجانٌ تُجاوبها

من القلوب التفاتاتٌ وأشجان

كلُّ الحياةِ ربيعٌ مشرق نَضِرٌ

في جانبيه وكلُّ العمرِ رَيْعان

تمشي الأصائلُ في واديه حالمةً

يحفّها موكبٌ بالعطر ريّان

وللخمائل شدوٌ في جوانبهِ

له صدىً في رحاب النفسِ رنّان

إذا العنادلُ حيّا النيلَ صادحُها

والليلُ ساجٍ، فصمتُ الليلِ آذان

حتى إذا ابتسم الفجرُ النضيرُ لها

وباكرتْه أهازيجٌ وألحان

تحدّر النورُ من آفاقه طَرِباً

واستقبلتْه الروابي وَهْو نشوان

**

تدافع النيلُ من علياء ربوتهِ

يحدو ركابَ الليالي وَهْوَ عجلان

ما ملَّ طُولَ السُّرى يوماً وقد دُفنِتْ

على المدارج أزمانٌ وأزمان

ينساب من ربوة عذراءَ ضاحكةٍ

في كلّ مغنًى بها للسحر إيوان

حيث الطبيعةُ في شرخ الصِّبا ولها

من المفاتن أترابٌ وأقران

وِشاحُها الشَّفقُ الزاهي وملعبُها

سهلٌ نضيرٌ وآكامٌ وقيعان

وربَّ وادٍ كساه النورُ ليس لهُ

غيرُ الأوابدِ سُمّارٌ وجيران

وربّ سهلٍ من الماء استقرَّ بهِ

من وافد الطيرِ أسرابٌ وَوُحْدان

ترى الكواكبَ في زرقاء صفحتهِ

ليلاً إذا انطبقتْ للزهر أجفان

**

وفي حِمى جبل الرجّافِ مُختلَبٌ

للناظرين وللأهوال ميدان

إذا صحا الجبلُ المرهوبُ رِيعَ لهُ

قلبُ الثرى وبدتْ للذعر ألوان

فالوحشُ ما بين مذهولٍ يُصفّدهُ

يأسٌ وآخرُ يعدو وَهْوَ حيران

ماذا دهى جبلَ الرجّافِ فاصطرعتْ

في جوفه حُرَقٌ وارتجّ صَوّان

هل ثار حين رأى قيداً يكبّلُهُ

على الثرى فتمشّتْ فيه نِيران

**

والنيلُ مُندفِعٌ كاللحن أرسلَهُ

من المزامير إحساسٌ ووجدان

حتى إذا أبصر «الخرطومَ» مُونقةً

وخالجتْه اهتزازاتٌ وأشجان

وردّد الموجُ في الشطّين أغنيةً

فيها اصطفاقٌ وآهات وحرمان

وعربد الأزرقُ الدفّاق وامتزجا

روحاً كما مزج الصهباءَ نشوان

وظلَّ يضرب في الصحراء مُنْسرباً

وحولَه من سكون الرملِ طُوفان

سارٍ على البِيد لم يأبه لوحشتها

وقد ثوتْ تحت سترِ الليلِ أكوان

والغيمُ مَدَّ على الآفاق أجنحةً

ونام في الشطّ أحقافٌ وغُدران

والليلُ في وحشة الصحراءِ صومعةٌ

مَهيبةٌ وتلالُ البيدِ رهبان

**

إذا الجنادلُ قامتْ دون مسربهِ

أرغى وأزبد فيها وَهْوَ غضبان

ونشّرَ الهولَ في الآفاق مُحتدِماً

جمَّ الهياجِ كأنّ الماءَ بركان

وحوَّل الصخرَ ذَرّاً في مساربهِ

فبات وَهْو على الشطّين كُثبان

عزيمةُ النيلِ تُفني الصخرَ فورتُها

فكيف إن مسّه بالضيم إنسان

وانساب يحلم في وادٍ يُظلّلهُ

نخلٌ تهدّل في الشطّين فَيْنان

بادي المهابةِ شمّاخٌ بمفرقهِ

كأنما هو للعلياء عنوان