خطف الحبيب والفضاء الإنساني الغائب – بقلم عبدالرزاق المصباحي

70190EA2-DCE9-472D-89D5-C541D7B1FDFA

أما قبل:

فرواية “خطف الحبيب” للمبدع الكويتي طالب الرفاعي، تسعى إلى انعطافة في تمثل دور “التخييل الروائي” بجعله في عمق الانشغال الدنيوي، متناغما مع روح العصر، و معبرا عن التحولات الكبرى التي يعرفها العالم. وهذا تحقيق لنبوءة إدوارد سعيد الذي شدد على أن “قضايا الأرض حسمت في الفن الروائي”، باعتباره كونا تخييليا وثقافيا.

وإن صدور رواية “خطف الحبيب” حدث ثقافي، خاصة في زمن كورونا، التي أوقفت حركية الحياة الطبيعية، وأحكمت إغلاق العالم، وفرضت توقفا اضطراريا على عديد من القطاعات الاقتصادية الجبارة، وجعلت قطاعا اقتصاديا/ ثقافيا هشا في العالم العربي كالنشر، يفقد نشاطيته الضعيفة أصلاً.  

وأن تصدر الرواية عن أربعة عشر ناشرا عربيا في الدخول الثقافي الجديد، وفي جميع العواصم العربية، ومنها طبعة عن المركز الثقافي للكتاب بالمغرب (شتنبر 2021)، هو إعلان عن تغيير في البراديغم الذي يحكم طبيعة نشر الكتاب العربي عموما، ومدخل للتفكير في طرائق جديدة للتوزيع، تتجاوز سلطة الرقعة الجغرافية، وإكراهات وصول العمل إلى القارئ العربي أينما وجد.

وإن فكرة نشر الرواية في الدول العربية على نحو متزامن، هو في عمق فكرة “الفضاء الإنساني“، التي نتخذها مدخلا لقراءة الرواية. فهو فضاء هجنة يركز على المشترك بين قاطنيه، وينفتح على الآخرين، ويؤمن أصحابه بالوصل الذي يحفظ الاختلاف، ويتسامح مع ثقافة الآخر ومعتقداته وتصوره لنمط عيشه. ولربما كانت هذه الفكرة نسقا إنسانيا خفيا موجها لطالب الرفاعي، وهو يرسم ذهنيا حبكته، فجاءت فعلا تخييليا ينظمها من أول جملة سردية إلى قفلتها.

فالمشكلة الكبرى التي طرفاها الحاسمان: يعقوب الأبوأحمد الابن، مردها غياب الفضاء الثقافي الإنساني، “وهو قوة محركة باعتبارها سلطة” (إدوارد سعيد، الاستشراق: محمد عناني،دار رؤية للنشر،2006، ص 49)، تنفذ إلى الذوات، فتصوغ أفكارها، وتصوراتها، وتحرك سلوكها، على نحو يقود إلى نهايات مؤلمة، كما تقدمها قفلة الرواية.

1- البيتُ فضاءً مادياً

يفترض في البيت أنه فضاء حميمي يضم الأسرة أو العائلة، التي يحف أعضاءها حدبُ الأم والأب، اللذين يضبطان علاقاتهما والأبناءَ على المودة والتقدير والرابطة القوية، التي ينظمها “الدم المشترك”. وهذه الحال المفترضة، قد تصير مخالفة للواقع، إذا انتفى محرك العلاقة الحميمة، وهو “الحب”، أفقيا في العلاقة بين الزوج والزوجة، وعموديا بينهما والأبناء.

يحكم العلاقة بين “يعقوب”، الزوج والذات الرئيسة، وبين ” شيخه” تراتبية مرسومة منذ بداية زواجهما، فهو رجل أعمال يهتم بشركاته الكبرى، وبالصفقات والأعمال، وتهتم هي بأمور البيت، يقول “سنوات كثيرة مرت على عشرتنا، ألف كل منا الآخر حتى اعتاد على هيئته ووجوده وأنفاسه” (ص4). وهذه الجملة السردية التي تتضمن غاية الإخبار في ظاهرها، تضمر طبيعة العلاقة بينهما، الخالية من الرغبة في الاكتشاف، والاستسلام لطريقة مرسومة مسبقا.

والبيت هو فضاء بسلطته المادية يغذي هذه الرتابة التي تخلق تراتبية دقيقة، وتحدد مهاما للزوج والزوجة، بل ترسم، على نحو خفي، حدود العلاقة الحميمة، فلا يقدر الطرفان على عبورها. ولقد أقرت شيخة في بوحها أن تصرفات يعقوب في البيت تشعرها أنها امتداد لموظفيه الكثيرين المنتشرين في بقاع الأرض، بما يعني أن البيت هو امتداد لفضاء الشركة، وأن التراتبية المرسومة، والمؤطرة بقوانين تنظيمية مكتوبة، هي نفسها التي تنسحب على فضاء البيت، فيفقد حميميته، وخصوصيته، ويفقد حيز الحرية الذي يسمه.

والأمر يشمل العلاقات العمودية بين يعقوب وأبنائه، فهو يحضر بثقله المادي في البيت، مواز لذلك الثقل في شركاته وأعماله، كأن يترك لشيخة اختيار هدية عيد ميلاد ابنته “أبرار” من ساعة “روليكس” يفوق ثمنها التسعين ألف دولار، ويقترح هو أن يدفع ثمنها، لكن دون أن يكون عضويا مندغما في حفلة العيد، وبعدها الرمزي بالنسبة إلى امرأة، هي ابنته. فالدفع هو دوره، وتوفير البذخ مهمته، لكن اللحظة نفسها بعمقها الإنساني، ورمزيتها الحميمية، لا تعنيه بالضرورة.

يصير البيت فضاء ماديا، إذن، يوفر للأبناء ما يحتاجونه، ويشعر الأب بأنه غير مقصر، وبأن الأمور جيدة، لكن هناك دوما حالا استثنائية تخرق القاعدة، وتقوض الاعتقاد بقدرة السلطة المالية على حل المشكلات، وهو ما جعل بيت يعقوب يهتز بوضعية الابن “أحمد”. فإذا كانت البنت “أبرار”، والابن “دعيج” قد استقلا بحياتهما، الأولى عبر الزواج، والثاني عبر تأسيس شركة خاصة به، والابنه” سحر” بمتابعة دراستها، والاستمتاع بالحياة، متوائمين مع الوضعية الحياتية المقترحة فإن “أحمد” دفع إلى تبني نمط متشدد في الفكر والحياة.

في فضاء البيت، ورغم التراتبية المفترضة، التي بموجبها تحضر سلطة الأب لحسم الأمور، فإن أحمد كان يصدر عن أحكام قاسية في حق والدته شيخة وأخته سحر، ويغلظ لهما القول، وبالقدر نفسه لوالده يعقوب، لأنه لا يقيم، في نظره، شرع الله في أهل بيته وشركاته. وفي القول الغليظ ترجمة لتحجر الروح والعقل، فلا تحضر قيم المعروف، ولا القدرة على استحضار السياق، سياق البيت، التي يدعو فيه الإسلام نفسه إلى إخفاض جناح الذل، وتقديم لين القول.

وفي تناغم مع الخشونة في السلوك، ينقسم فضاء البيت إلى رقعتين: الأولى، موسومة بالبذخ والرفاهية المادية يقطنها الأب والأم والابنه الصغرى سحر، رفقة الخدم، والثانية غرفة “أحمد”، المكونة من حصير بسيط، وطاولة لكتب، وثلاجة صغيرة من نزر قليل من طعام ليس من مال والده. وهذه التقاطبية المكانية تعلن عن حجم الصراع بين أحمد وباقي أفراد أسرته، ففضاء واحد غير قادر على أن يجمعهما، وأحمد الذي كان يدرس في المرحلة الثانوية، كان ينتظر فرصة لمغادرة فضاء البيت. وغرفته بما تجسده من شظف العيش، وخشونة الصفا، إعلان عن رفض فضاء البيت، ومقدمة لمغادرته.

وفي العمق، فإن رقعتي فضاء البيت متشابهتان، بالرغم من الفرق الظاهر، فإنهما معا أنتجا علاقات موصومة بالفتور، وغياب النقاش الحميمي الدافئ، ولو أن هذه الأمور تحققت مع أحمد وباقي أفراد الأسرة، لما كانت النتيجة أن ينتقل أحمد إلى الرقعة الأخرى، وبالقدر نفسه يسكن يعقوب في شركاته، وتتواءم شيخة وسحر مع المتاجر الفاخرة. فالهروب إلى هذه الأفضية سببه أن فضاء البيت تحكمه المادية واسعا، وتصوغ التجبر السلوكي، والقسوة في تدبير العلاقات.

وإن كانت شيخة، قد حاولت أن تتدارك الأمر أكثرة من مرةلبناء فضاء حميمي واحد، ورغم تحركات يعقوب لاستعادة أحمد إلى بيته بعد مغادرته، فإن فضاءات أخرى قد استغلها آخرون لتحويل وظيفتها المقدسة والسامية إلى آلية لتطويع أحمد، ودفعه إلى الحدود القصوى للقسوة.

2- من المسجد إلى المدرسة: الفضاء المقدس

إن فضاءي المسجد والمدرسة على درجة كبيرة من التماثل، فإذ كان المسجد فضاء تعبديا يقيم فيه المسلم بعضا من شعائره، ويملأ حاجياته الروحية، فإنه أيضا فضاء علم واستزادة وتثقيف روحي وعقلي، تماما مثل المدرسة التي تعلم المعارف، وتربي على القيم المتوافق حولها. وإن كان الفضاءان مؤسسيان، تؤطرهما مؤسسات الدولة، فلضمان قيام المسجد بوظيفته في تأمين حق ممارسة التدين، ولجعل المدرسة وسيطا لبناء السلوكات المحددة في اختيار البلد لمجال القيم.

وفي حال أحمد، فإن الهروب من فضاء البيت المغرق في ماديته، كان إلى المسجد، بتوجيه من خاله “عثمان”، وإلى شيخ“مصري الجنسية” اسمه “عبدالشافي” المنتمي، دون علم أحمد، إلى شبكة دورها تجنيد الشباب، “للجهاد” في مناطق الصراع، وخاصة سوريا. يتبع “عبدالشافي” استراتجية محكمة، تنطلق من تحفيظ صغار الآيات إلى كبارها، ثم تقديم دروس في الفقه والتفسير، قبل الانعراج نحو الحياة الخاصة للمستهدف، وجعله يعتقد بتحريم كل الممارسات الشائعة: مشاهدة التلفزيون، التعامل مع الخدم من غير الديانة الإسلامية، الإغلاظ في القول للأهل كلما خالفوا ما يعتقده من حقيقة الدين، والتشدد مع الأب وتحميله كل مسؤولية، ومواجهته بقسوة، ثم التحريض على ترك فضاء البيت.

يستغل “عبدالشافي” فضاء مقدسا، لغايات ظاهرها ديني وتعبدي، وفي جوهرها سياسي واستراتيجي عبر تزويد الجماعات الإرهابية بالشباب المحاربين، أو القادة الجدد الذين يمتلكون قدرات في التخطيط والتنفيذ، أو أبناء أصحاب السلطة والمال، الذين يمكن أن يمولوا أعمالهم. ويستغل هؤلاء لحظات الفراغ الروحي والنفسي الذي يفتقدونه في فضاءات البيت، ويشبعونه بالمفتقد في حيواتهم قبل توجيههم إلى الغايات المسطرة بشكل مسبق.  

ولا مجال للمصادفة أو الخطأ في هذه الاستراتيجية التي يتبعها هؤلاء المجندِون، فخال “أحمد” عثمان، المطلع على كل مشاكله النفسية وطبيعة حياته، هو الذي قاده إلى الشيخ عبدالشافي، وبالرغم من أن الرواية عبر الأصوات السردية لأحمد أو عثمان لا تذكر تفاصيل هذا التوجيه، فإنه واضح أنه من منح الشيخ عبدالشافي المداخل التي يمكن أن تؤثر عليه وتطوعه، وهو كان يقيّم أثر ذلك في سلوك أحمد داخل بيت والده، ويدعمه خفية عن أبيه في مواقفه.

استغل الشيخ “عبدالشافي” فضاء المسجد، وسلطته الروحيةالكبيرة، ولولا ذلك لكان أقل تأثيرا في أحمد. ولترسيخ الأثر، وجعله حاسما، فقد نسق “عثمان” مع مدرس لأحمد اسمه “عمر”، وجعله يحدب عليه، ويمول أكله، وعصيانه داخل المنزل في رقعته الثقافية “غرفته”، وهذه خطوة نسقية غايتها محاصرته في فضاءات ذات قدسية مؤثرة، المسجد ببعده الروحي، والمدرسة ببعدها القيمي، مجسدا في الرمزية الكبرى للمدرس.

استغل الأستاذ عمر مهمته باعتباره مدرسا لتمرير أفكاره وقيمه ورأيه في التدين، ليملأ رأس أحمد به، ثم يوجهه بدوره إلى الانعزال عن باقي أفراد أسرته في غرفة مختلفة، تمهيدا لعزله عنهم في ضيعته، فإرساله إلى الأراضي السورية عبر تركيا للانضمام إلى جماعة مسلحة. وفضاء المدرسة يفترض أن يكون فيه المدرس موظفا يبني مجال القيم، كما هو متوافق عليه مؤسسيا والمستمد من دستور البلد وثوابته، إذ لا يمكن للمدرس اليساري أو الأصولي أو الملحد أو المتطرف أن يستغل فضاء مشتركا، ليمرر أيديولوجيا يؤمن بها او تفسيرا معينا يخصه. لكن يحدث، بسبب الانتماء إلى مؤسسات أو تنظيمات صغرى، أن يستغله في غياب التتبع المؤسسي، أو متابعة الأولياء.

وهذه التتبع افتقده “يعقوب”، الذي عنف “الشيخ عبدالشافي” في المسجد، ثم استغل سلطته لحبسه، وهجم على الأستاذ “عمر” في المدرسة، وهما فعلان أقنعا ابنه أحمد بخطاب مجنديه، وأبعده عنه، فالعنف في فضاء المسجد المقدس، ثم المدرسة بما لها دلالةمؤسسية، فهي امتداد للدولة، ثم الرمزية باعتبار دورها في التعليم والتربية، جعل يعقوب يبدو إنسانا يغره ماله ونفوذه غير المحدود.

إن فضاءي المسجد والمدرسة، بما لهما من سلطة مقدسة وقوة تأثير كبرى، قد يستغلان من قبل التنظيمات النووية، التي تحولهما من فضاءين مشبعين للحاجات الروحية والنفسية، إلى فضاء لاصطياد المقبلين على الله والعلم، وتوجييهم نحو صراعات جيو سياسية كبرى. وفي غياب تحصين روحي ونفسي كبير في فضاء البيت، فإن النتيجة تكون تحكما كاملاً في فكر الضحية وسلوكه كما حدث مع “أحمد” الذي تحول إلى مقاتل جهادي في سويا يشغفه الدم والقتل والتمثيل بخصومه.

3- فضاءات قاتلة

في الفضاءات الثقافية كلما انتقل الفرد من رقعة إلى أخرى، يتغير سلوكه ووسمه، وأحمد في فضاء بيته الصغير (بيت والده) والكبير (الكويت)، صار أبا الفتح الكويتي، حينما انتقل إلى سوريا مقاتلا في جماعة جهادية، ثم أميرا عليها. وأول درس تعلمه بمجرد قطعه الحدود هو قانون الحرب “إن لم تَقتُل تُقتًل” (ص80). والقتل هنا، هو القانون في الحدود التي يقطعها الجهاديون في سوريا والعراق وإيران.  

إن جعل هذه الحدود مقترنة بالقتل إلغاء للفضاء الثقافي الإنساني: فالرأي المخالف عصيان، ومراجعة الأفكار ردة، وسرقة أموال الناس غنيمة. والتراتبية في الفضاء القاتل مبنية على تصفية المخالفين، وعلى الطاعة العمياء، التي لا نقد فيها ولا تفكير. وفيها تهدى النساء كما أحمد الذي أهديت له زوجة ثانية، ليستفيد أبوها من تعويض شهري بقيمة مائتي دولار من “بيت المال”. فالفضاء القاتل قائم على الاستعباد المطلق، وغياب الرحمة أو المجادلة الحسنة.

ويمكن أن نميز في الرواية بين ثلاثة فضاءات قاتلة:

الأول، هو الحدود التركية السورية، التي عبرها أحمد، فانتقل إلى فضاء القتلُ جزء من جوهره، ووسيلة الحوار الوحيدة.
الثاني، منطقة البوكمال على الحدود السورية العراقية التي جرت فيها معركته ضد داعش، وأسر فيها بعد هزيمة فرقته.
الثالث، منطقة “زابل” على الحدود الإيرانية الافغانية، التي قتل فيها الابن أحمد، بحضور الأب يعقوب، حينما أراد تخليصه من آسريه.

ولنا أن نتأمل أن هذه الحدود كان يمكن أن تكون انتقالا من حضارة إنسانية كبرى إلى أخرى، ونظرة مستجدة على التاريخ البشري الذي تكون في هذه الفضاءات العريقة، فيكون المسافر عبرها، كمن انتقل من حياة إلى أخرى، يملأ روحه بالإنتاج الثقافي البشري في أبهى صوره وأكثرها إشراقا. ولكنها صارت فضاءاتللصراعات الجيوسياسية الكبرى، التي تقطع ولا تجسر، تقتل ولا تحيي، تمنع ولا تسمح.

أما بعد:

فرواية (خطف الحبيب) تعلن عن أهمية الحب الذي إن حضر بعمقه الإنساني، فإنه يملأ الفضاءات بالمحبة والخير والتآخي، وإن غاب تصير الفضاءات مثقلة بالكراهية وبالتجبر والقسر والموت، فلا يعوضه مال أو اهتمام متأخر.

ولقد تآخى سعي حبكة الرواية إلى تنبيهنا من خطورة غياب الفضاءات الإنسانية، مع تجربة طالب الرفاعي الجديدة في النشر، التي نتمنى أن تكون فاتحة لصناعة الفضاء الثقافي الإنساني المأمول الذي يجعل الكتاب الفكري والتخييلي يجمع القراء من الماء إلى الماء.