بيروت جنة الشعراء المتلألئة عند فوهات الجحيم – بقلم شوقي بزيع

شوقي بويع

من أين نعثر على ذهولٍ يليق بجسد بيروت المهشم؟ من أين نعثر على نجوم تليق بعينيها المطفأتين؟ من أين نجد غضباً يليق بقلبها المطحون؟ ليس بوسع أحد أن يجد في كلام المعاجم، ما يحاكي جسامة الألم المنعقد كسحابة من الدخان في فضاء المدينة الكليل. فبيروت الآن ليست عاصمة لبلدٍ أو مكانٍ على الخارطة. إنها الحارسة الدائمة للاستعارات التي تفْلت دونما وجهة محددة من مخيلات الشعراء، بقدر ما هي نظرة الحقيقة إلى نفسها قبل أن تتحول إلى طلل. ولعل ما ذهب إليه العالم الجغرافي أليزيه روكلو من أن اسمها مشتق من البئر، لا يجد ما يسنده عبر توافق الاسم مع مسماه فحسب، بل في الكلفة الباهظة لهذا الجمال اليوسفي، الذي ما انفك يدفع بالمدينة نحو القيعان الأخيرة للمأساة. وقبل أن يهتف نيتشه بالمبدعين الجديرين بالبقاء «يجب أن تبنوا مدنكم على قمة جبل فيزوف»، كان اللبنانيون المحبون للمغامرة يبنون جنتهم الأرضية على فالق لا يهدأ من الصفيح الزلزالي.

لقد رسمت الجغرافيا الباذخة والحساسة، تاريخ المدينة وقدَرها الصعب. فمنذ أن خرجت بيروت من أحشاء الأسطورة التي جمعت بين أفروديت وأدونيس، وفق بعض الروايات، حتى تنازع على عرش قلبها إله البر والكرمة ديونيسيوس، وإله البحر بوسيدون. ورغم أن الغلبة قد تمت لهذا الأخير، فإن الصراع على هوية المدينة، بين الداخل والخارج، بين أمومة الجذور وأنوثة المنافي، وبين الانغلاق الرتيب والانفتاح الخطر، لم يتوقف أبداً عن التجدد. هكذا كان على بيروت أن تدفع مضاعفاً ثمن ما ملكته، وما سعت أبداً إلى امتلاكه. فإذا لم تدمّر بفعل فاعل بشري، دُمّرت بفعل الطبيعة نفسها، حيث العلاقة بين البر والبحر مرسومة بنصال السكاكين. وإذا حدث أن نجت من الخطريْن الأوليْن، فإن حكامها الممعنين في فسادهم والمتحصنين بالمربعات الخرسانية المغلقة لنظام الملل الطائفي، يتكفل بالمهمة، ويهيئ لحروبها الأهلية الدورية ما يلزمها من وقود. لا غرابة في هذه الحالة، أن يحتفي الشعراء بالمدينة، وأن يروا فيها معين قصائدهم الذي لا ينضب، وهي التي تجسد بالنسبة لهم كل ما يجسده الشعر نفسه من قوة العصب ونفاذ البصيرة وبلاغة النقصان. وهي إلى ذلك، المدينة الآهلة بالمفارقات، حيث الموت توأم القيامة، وحيث الألم الممض هو الوجه الآخر لشهوة الحياة. أما النصوص التي اخترتها، كتحية رمزية للمدينة المكلومة، فهي ليست سوى غيضٍ من فيض ما كُتب عن بيروت، وما تتسع لنشره هذه المساحة المحدودة.

يا بيروت

أنت أرومة الحياة ومرضعة المدنْ

أنت أولى الحواضر المنظورة،

الأخت التوأم للزمن،

المعاصرة للكون، كرسي هرمسْ،

أرض العدالة، مدينة الشرائع،

عرزال البهجة، معبدُ كل حب،

ونجمة بلاد لبنانْ

(ننّوس الديونيزي)

أنا وردة فينيقيا التي ذوت بفعل الزلزال

وزال عنها جمالها الآسر

ودُكّت أبنيتها بديعة المنظر

ورائعة الهندسة

هاآنذا المدينة التاعسة

كومة من الخرائب وأبنائي أموات

هل تبكون أيها العابرون الماشون فوق أطلال؟

هل تأسون لمجد بيروت التي لا وجود لها؟

وداعاً أيها الملاحون الباحثون عن مرفأ لهم

وداعاً أيتها القوافل الآتية من وراء البحار

(أغاتيوس اليوناني)

ربّ بيتٍ كأنه متنُ سهمٍ سوف تأتيه من قرى بيروتِ

من بلادٍ ليست لنا ببلادٍ كلما جئتِ نحوها حُييتِ

(الوليد بن يزيد)

كأنما بيروتُ في حسنها وقد بدتْ كاملة في النعوتْ

منظومة قد شاقني بحرها المديدُ، والأبياتُ منها البيوتْ

(عبد الغني النابلسي)

ويا حبّذا عيشٌ ببيروتَ ناعمٌ هنيءٌ رخي الحال تحت ظلالها

ذكرتُ عشيّات الربوع، فهاجني هواها وذكراها وطيبُ وصالها

فما هي إلا جنة عبقرية يَقرّ بعيني اجتلاءُ جمالها

(مصطفى الغلاييني)

كأن جبال المتن حدْبة عابدٍ هوى ساجداً شكراً، وبيروت رأسُهُ

تزوج صنّينُ الفتى بنتَ جارهِ وأضواءُ بيروت الوسيطة عرْسهُ

(معروف الرصافي)

نعترف أمام الله الواحد أنّا كنا منك نغار، وكان جمالك يؤذينا

نعترف الآن بأنا لم ننصفكِ ولم نعذركِ ولم نفهمكِ،

وأهديناك مكان الوردة سكّينا…

نعترف الآن بأنا كنا ساديين، ودمويينَ

وكنا وكلاء الشيطانْ

يا ستّ الدنيا يا بيروتْ

قومي من تحت الردمِ كزهرة لوزٍ في نيسانْ

قومي من حزنكِ

إن الثورة تولد من رحم الأحزانْ

(نزار قباني)

دخلتْ بيروت في خارطة الموتِ،

قبورٌ كالبساتين وأشلاءٌ – حقولْ

ما الذي يسكب قصّابين في صيدا وفي صورٍ

وبيروت التي تنسكب؟

ما الذي في بُعده يقتربُ؟

ما الذي يمزج في خارطتي هذي الدماءْ؟

يبس الصيف ولم يأت الخريفْ

والربيع أسود في ذاكرة الأرض، الشتاءْ

مثلما يرسمه الموتُ: احتضارٌ أو نزيفْ

زمن التيه الذي يرتجل الوقتَ ويجترّ الهواءْ

كيف، من أين لكم أن تعرفوهْ؟

قاتلٌ ليس له وجهٌ، له كلّ الوجوهْ

حاضناً سنبلة الوقت ورأسي برج نارٍ:

منهكٌ التفت الآن واستشرف ما تلك الخِرقْ؟

أتواريخٌ ؟ أبلدانٌ ؟ أراياتٌ على جِرْف الغسق؟

(أدونيس)

… وتنكسر السماء على رغيف الخبز،

ينكسر الهواء على رؤوس الناس من عبء الدخان…

الموت يأتينا بكل سلاحه الجوي والبري والبحري،

مليون انفجارٍ في المدينة… هيروشيما، هيروشيما

وحدنا نصغي إلى رعد الحجارة، هيروشيما

وحدنا نصغي لما في الروح من عبثٍ ومن جدوى،

وهذا الأفق إسمنت لوحش الجوّ،

نمشي في الشوارع باحثين عن السلامة،

مَن سيدفننا إذا متنا؟

ويا… يا يوم بيروتَ المكسّر في الظهيرة

عجّلْ قليلاً

عجّل لنعرف أين صرختنا الأخيرة

(محمود درويش)

لن أرى بعد اليوم تلك النظرة الخضراء

التي حوّلها الموت إلى حجر!

وفي برك الماء المنتشرة في الشوارع

كان ظلي يتأوه طوال سنوات

لكَم قلتُ لكم إن حياتي شاحنة ملغومة

في القصيدة اكتملتْ فحولة رامبو المنقوصة

هذا الطفل امتزج بعرَقي في الثكْنة الخاوية

في ضاحية بيروت

(إيتيل عدنان)

… كانت شمس بيروت الحزينة نصف مرآة محطمة،

تنوح على بقايا نصفها العلْويّ

أشباحُ الفجيعة،

والذين هناك يختبئون تحت جلودهمْ

ويخبئون مرارة الضحكات،

يقتسمون إرث الموت في زمن الولادة والدمارْ

أوَكان مجتوماً عذابكِ!

أن تغوص حجارة الكبريت في عينيكِ،

هاتين المظللتين بالفرح العميقِ،

وأن تلفّ جناحك الذهبي عاصفة السقوط والاحتضارْ!

أوَكلّ هذا الساحل الملحي جرحكِ؟

كلّ هذا الحائط الدموي موتكِ؟

كلّ هاتيك الضحايا الساقطات من الجحيمِ،

وأوجه القتلى المفرّغة العيونِ،

وذكريات ُ الرغب والدم والغبارْ!

(محمد الفيتوري)

كانت أولاً بيروتُ واقفة إلى الفقراء،

ثم أتوا إليها من وراء المال والألقاب

فابتدأ الرصاص،

وفسّروك ولم أوافق،

قسّموك ولم أوافقْ

وانتزعتك من بنادقهم بأن أعلنتُ وقتي

حيث ينطفئون، صوتي

حيث ينهدمون، بيتي

هذا، وبيروت الصديقة لا تراني

إنها تهوي على صدري، ويخنقها دخاني

(حسن عبد الله)

هي ورْقة من توتْ

كان اسمها بيروتْ

سقطتْ، فما عرّت سوى التابوتْ

ما غادر الشعراء من متردّمٍ وقصيدتي لم تكتملْ

ما زال ينقصني شهيدْ

ما زال نصف القول محتقناً ويحرق لي فمي

ما زال نصف الجرح مفتوحاً

وهذي الأرض لم تشرب دمي

والشعر يطلب جثة معروفة،

تأتيه قافلة من الشهداء من بيروتَ،

لكنْ لم يزل عندي يطالب بالمزيدْ

(ممدوح عدوان)

كانت وحيدة أهلها بيروتُ،

ثم تشابهَ الأبناءُ واختلط الولدْ…

أنا في انتظارهمُ، وقد خلَت المحطة والقطار مضى

ولم يصعدْ، ولم ينزل أحدْ

أنا في انتظارهمُ، وليس على الرصيف سواي،

والقنديل مختبئاً ينوسُ وراء خيطٍ من دخانٍ،

كلما اقتربَ ابتعدْ

إني أكاد أرى وأسمع،

يا إلهي، هل قطارهمُ تأخّرَ، وهْي ضجتهمْ؟

أم انطفأتْ إشارات المرور إلى الأبدْ؟

(شوقي بغدادي)

هو محض مشهد قيامي، لا أكثر

فلا تهلعي يا صغيرتي، يا امرأتي وحبيبتي،،،

ألا يكفيك أن القائمين بأودك رابطو الجأش، نحاسيو الوجوه، زجاجيو الأعين

ونيرونيو الأيدي والقلوب والعقول؟

ألا يكفيك أنك آية وهشة وجميلة ككتب الأنبياء، وكالمسبيات، وكنساء الشرفات

العاليات الحصينات؟

ألا يكفيك أنك بسبب ذلك ولأجل ذلك

لا بد أن تكوني لعنة جمالك الفذ

كما مشتهى المشتهين، ومبتغى الباغين؟

(عقل العويط)

لربما نسينا قلوبنا الحقيقية في أرحام أمهاتنا

أو في السماء الثالثة

لامِعين كفرائس العتمة

ترنّ في النزف

آه أيها الإنسان المحطم

جريدة الشرق الاوسط