الكاتب نبيل سليمان لـ”الشرق”: الفن أولاً وأخيراً

يوصف الكاتب السوري نبيل سليمان، الذي فاز أخيراً بجائزة سلطان العويس الثقافية في الإمارات عن فئة القصة والرواية والمسرحية، بأنه صاحب مشروع شامل يجمع بين الإبداع الروائي والنقد. 

وفي حوار مع “الشرق”، قال سليمان إن هذه الجائزة “وسام على صدر 50 سنة من الكتابة، على صدر 23 رواية ومثلها من الكتب، في نقد الرواية تحديداً، وفوزي يُعدّ مسؤولية وحافزاً في آن واحد”، مشيراً الى أن “من الجوائز ما يحفز بعض الكتّاب حقاً، ومنها ما يوئنس بعضهم الآخر، وهي في سائر الأحوال تلهب المنافسة بين بعض الكتّاب”. 

بين النقد والرواية.. تجربة تأسيسية

تجربة سليمان النقدية تُعد ذات طابع تأسيسي، مثلما هي تجربته الروائية، فكيف جمع بينهما؟

قال صاحب “ينداح الطوفان” إن المشوار ابتدأ بالرواية، وبعد 3 روايات اقترح صديقه المفكر الراحل بوعلي ياسين، محاولة تبيّن ماهيّة الأيديولوجيا التي يبثها الأدب في سوريا بين حربي 1967و1973، في عمل مشترك، وهكذا كما يقول، جاء كتاب “الأدب والأيديولوجيا في سوريا” عام 1974، وكان أولى خطواته في النقد. 

وبعد روايتين أخريين، صدر كتاب نبيل سليمان الأول في نقد النقد، وهو “النقد الأدبي في سوريا” عام 1980، وأعقبه ما هو بمثابة الجزء الثاني، تحت عنوان  “مساهمة في نقد النقد الأدبي” عام 1982. ومن ثم انتقل إلى نقد الرواية مع كتاب “وعي الذات والعالم” عام 1985. 

ويقول سليمان في حديثه لـ”الشرق”، إنه منذ ذلك الحين حتى اليوم “ما كتبتُ حرفاً في النقد إلا لأفيد منه في كتابة الرواية، محاولاً في كل كتاب أن أرى ماذا تُقدم روايات الآخرين، الشيوخ منهم والشباب خصوصاً، فأنا تلميذ دائم أتعلم ممن سبقوني، وممن جاؤوا معي وبعدي”. 

لكن الأهم بالنسبة لسليمان كان “متابعة النقد لمئات الروايات، وأظنها بلغت ألف رواية في 25 كتاباً، وما سرّ الجمع بين النقد والكتابة الروائية إلا العمل الدؤوب، وفي التواضع والصبر والطموح”.

التطوّر يقترن بالتجريب

الكثير من النقاد يُجمعون أن تجربة نبيل سليمان الروائية عميقة وجادة، ويبرز فيها التجريب والمثابرة وتجديد السرد وطرح القضايا، حيث يمزج بين التخيّل والتاريخ والسيرة والفلسفة والواقع، متمكناً من فتح أفق فريد يجمع بين أنواع سردية عدّة. 

ويرى صاحب “سمر الليالي” أن التطور والابداع يقترنان بالتجريب، ويضيف “الحق أنني عندما بدأت التجريب لم أكن على وعي نظري عميق به، فكان الأمر أقرب إلى الفطرة، ولعل أساسه كان في الطموح”. 

ثم يتابع: “بالتجريب يتجدد السرد ويتعمق، وإن يكن محفوفاً بمزالق المجانية والمبالغة.. وإلى ذلك حاولت أن تكون للرواية قضيتها الكبرى، بمقدار ما حاولت أن تكون أولاً وأخيراً.. لعباً وتخيلاً وإبداعاً في اللغة وفي العمارة وفي بناء الشخصية”. 

لكن، بالنسبة لسليمان “القضية الكبرى أو الصغرى إن لم تكن (منحلّة) أو جارية كالسيل في كل ذلك، فلن تكون إلا عبئاً، وخطاباً مُجافياً”، ويوضح: “من رواياتي ما كابد السؤال، مثلاً، عن الوحش في الإنسان، سواء أكان في الحروب أم الحُكم أم الذكورية. ومنها ما كابد السؤال عن الحرام الجنسي، أو عن العماء، فتفاعل في الكتابة الروائية مثلاً، التراث الشعبي الديني والموسيقى والفن التشكيلي والأسطورة والحكايات وما أسميه لسان العوام”.

مسار متواصل 

روائياً، يعدّ الكاتب السوري نبيل سليمان صاحب مسار متواصل المراحل، وينطلق من رؤية واضحة ومفاهيم راسخة، فأعماله الروائية يكمل واحدها الآخر، من العام 1970 مع (ينداح الطوفان) إلى (تاريخ العيون المطفأة) عام 2019. 

يصف هذا المسار بالقول “عمري، حياتي، 60 سنة مضت من القراءة ومحاولة الكتابة هي ما شكّل هذا المشروع الذي لا يفتأ يكبر ويتفتح ويغامر ويواجه خاصة الزمن والتحديات الجسدية والفكرية والاجتماعية، يواجه أسئلة الإنسان الفرد والإنسان الجماعة، والإنسان الحيوان، والإنسان العلم واللغة والفن والجسد الفاني والموت والعجز..”.

الحفر في التاريخ 

كتبَ سليمان الرواية الواقعية والتاريخية والسياسية الملتزمة، دون أن يخلو ذلك من مساحة واسعة من التخيّل والخيال، وتقاطعت في هذه الروايات أساليب ومدارس هي من خلاصات الفن الروائي العالمي. 

يؤكد صاحب “السجن” أنه سعى إلى الحفرية الروائية في التاريخ، وراهن عليها، وليس على الرواية التاريخية، إذ اقترن هذا المصطلح طويلاً بمساحة أضيق للتخيّل، وبتثقيل للمعلومة أو الوثائقي.

وأضاف: “كان للسياسي حضوره أو اشتغاله في رواياتي، بالطبع بنسب مختلفة، لكن ذلك لا يعني أنها روايات سياسية، فإذا أضفنا صفة ملتزمة، انفتح القول على قديم جديد ومستمر، أما القديم فلست معنياً به”.

دون الفن لا قيام للرواية

الالتزام الجديد أو المستمر، كما يراه سليمان هو “الفن أولاً وأخيراً. والفن بين هذين الحدين، فمن دون الفن لا قيامة للرواية. وهذا الفن تسري فيه تعرية كل ما يُشوه إنسانية الإنسان، ويسري فيه كل ما يُعزز البهجة والعدالة والنبل”.

وبالنسبة إلى “سبك الأساليب والمدارس والموضوعات والتجدد”، يظن سليمان أن “كل ذلك يتأسس في النظر إلى الرواية، وإلى الذات، فالرواية فيما أحسب بحر بلا ضفاف”. ويقول أيضاً “في بحر الرواية ما بين السماء والأرض هو الفارق بين كاتب غر يخبط ويبلع الماء وقد يغرق، وبين سباح ماهر يتلذّذ ويبدع وهو يسبح، وبين سباح ذي شأن لكنه يسبح كمن يقاتل مراهناً على المقدرة وليس على اللذة والإبداع الذين اخترتُهما منذ البداية”.

رواية الحرب السورية

تابع سليمان معظم الأعمال الروائية التي كُتبت عن الحرب السورية في السنوات الأخيرة. وكتب أيضاً عن هذه الحرب من خلال رؤيته الخاصة. فكيف ينظر إلى هذا الدفق الروائي الذي تناول هذه الثيمة، وكيف يحدد موقعه داخل هذا الإنتاج الكبير؟ 

يقول: “هو دفق كبير حقاً، لعله بلغ مئات الروايات. وقد كنت حتى 4 أو 5 سنوات مضت أقرأ أغلب ما نُشر، خصوصاً خارج سوريا، لكن متابعتي تراجعت، لأن (الماراثون) أكبر من طاقتي، ولأنني شُغلت بمشاريعي الروائية”.

ويعتقد كاتب “جداريات الشام، نمنوما”، أن “السياسي غَالب الفني في أغلب الروايات حتى غلبها، ولا فرق بين كاتب مخضرم وآخر جديد، بل من السياسة ما شوّه روايات، وشوّه تاريخ روائيين، وخاصة من فحّتْ بعض رواياتهم بالطائفية، وأعمت الثأرية بصيرتهم”.

بالمقابل، يرى سليمان، أن هناك روايات عديدة لكتّاب جدد، منهم الشاب(ة) ومنهم المعمر(ة)، راهنت على الفن وعلى جمالية الرواية، وليس على الشعارية والهتاف. ومثل “هذه الروايات هي الإضافة الكبرى ليس للرواية السورية فحسب، بل للرواية العربية، ممّا كتب خالد خليفة وسمر يزبك وخليل صويلح وممدوح عزام ونسرين الخوري وعتاب شبيب وإبراهيم الجبين وخيري الذهبي وسواهم.. وجمهرة من الكتاب والكاتبات السوريين والسوريات الأكراد”، بحسب ما لاحظ. 

وأسِف سليمان لأن “بعضهم غرق في مستنقع المعارك الوهمية -ليتها كانت دونكِشوتية- ونصّب نفسه قيّوماً، حتى إذا تحدثت أنت عن (الحرب السورية) انتفض وأشهر عليك سيف سلاطته ووحشيته لأنك لم تذكر (الثورة السورية)”. وأضاف “واجهتُ مثل ذلك عقاباً على حديثي عن الزلزال السوري والزلزلة السورية والعربية بدلاً من حديثي عن الثورة”.

رؤية وسط العماء

كتب سليمان عن هذه الحربثلاث روايات هي “جداريات الشام: نمنوما” و”ليل العالم” و”تاريخ العيون المطفأة”، وقد مُنع توزيعها في سوريا حيث يُقيم الكاتب حتى الآن. 

“أسعدني وحفّزني ما لاقت الروايات الثلاث من الاهتمام، وربما تكون لي عودة إلى مثل هذه الكتابة، فما عشناه خلال 10 سنوات يُعادل تاريخاً بطوله وعرضه، بل تاريخاً استثنائياً، يقول الكاتب السوري.

ويضيف: “سواء أكان موقعي في الصدارة أم في الهامش، المهم هو موقع رواياتي الثلاث بما حاولت أن تقدمه من نبض التاريخ الهادر الجاري الساخن والمدمّى، والمهم ما قدّمته تلك الروايات من الرؤية وسط العماء المتلاطم في إهاب (جلد) جمالي جديد وخاص”. 

المخيّلة تعيد تشكيل المكان

في كثير من روايات نبيل سليمان رهان على المكان، سواء كان واقعياً أم متخيلاً، حيث يمكن القول إن المكان ركيزة أساسية في رواياته مثل (السجن) و(سمر الليالي)، حيث يمكننا أن نلامس أمكنته ونشمّ روائح الأحياء والبيوت والمدن. 

وفي روايته الأخيرة “تاريخ العيون المطفأة”، ابتكر أمكنة نسجها من خياله، وابتكر لها شخصيات وسجون وأنظمة سياسية واجتماعية، ونسج عالماً من الفلسفة الخاصة بالعماء، لكن القارئ يمكنه أن يُسقط ويُحيل هذه الأمكنة إلى بلدان بعينها. 

ويرى سليمان أن “الرواية كائن حي مثلنا، والكائن الحي من شروطه المكان، سواء كان مغارة أم صحراء أم كوخاً أم شقة في رأس أي برج. وإذا جعلتُ في رواياتي المذكورة إضافة الى (أطياف العرش)، المكان غير متعين فيما هو معروف، فهذا لا يُقلل من شأن المكان فيها، سواء أحاله القارئ إلى مكان يعرفه، إلى قرية أو مدينة أو دولة، أم لا”.

ويطنّ أن “الرواية التي لا تجعلنا نشمّ رائحة المكان فيها، هي رواية بلا روح، تحوّل المكان فيها إلى ديكور ميت”.

ويؤكد أن “المكان هو فعلاً ركيزة أساسية لرواياتي، وإذا كانت هذه الركيزة تأتي من بيت أو حي أو بلدة أو جزيرة عشت فيها، أو إن كانت تأتي من جبل أو بادية أو صحراء مما عشت فيه، فالمخيلة لن تصور هذا المكان أو ذاك مثل الكاميرا، بل المخيلة تعيد تشكيل المكان وتنفث فيه من روحها وريحانها”.

الشرق نيوز