لا دموع ليذرفها

حسن مدن

تساؤلان حول مفهوم الشجاعة أتيا في سياقين مختلفين، ولكنهما يستوقفان كل من يصادفهما. أحدهما جاء على لسان الكاتب المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس، والثاني جاء على لسان الأديب الروسي ليف تولستوي.

ولنبدأ بتعريف هذا الأخير، الوارد في قصته «غارة»، حيث يدور في مطلعها حوار بين اثنين، أحدهما برتبة نقيب، حين يسأله الأول: «من هو الشجاع عندك؟»، ليكرر النقيب المفردة: الشجاع؟ الشجاع؟ ثم يقول بعد تفكير: الشجاع هو من يتصرف كما ينبغي، لكن تولستوي يقول على لسان الرجل الأول: «تذكرت أن أفلاطون يُعرّف الشجاعة بأنها معرفة ما ينبغي الخوف منه وما لا ينبغي»، ليلاحظ أنه رغم ما انطوى عليه جواب النقيب من إبهام، لكنه رأى أن الفكرة الأساسية لدى الرجلين ليست مختلفة بالقدر الذي قد تبدو عليه، بل إن تعريف النقيب أوضح من تعريف الفيلسوف الإغريقي، فلو امتلك النقيب فصاحة أفلاطون لقال:«بالتأكيد الشجاع هو من لا يخاف إلا ما ينبغي الخوف منه، وليس ما لا داعي للخوف منه».

مرةً أخرى، شرح تولستوي الأمر، على لسان بطل قصته الثاني، حين قال: «أحببت أن أوضح فكرتي للنقيب فقلت: أجل، يبدو لي أن في كل خطر خياراً، والخيار المتخذ تحت تأثير الشعور بالواجب، مثلاً، هو الشجاعة، أما الخيار المتخذ تحت تأثير شعور وضيع فهو الجبن، فلا يجوز أن يوصف بالشجاعة من يجازف بحياته مدفوعاً بالغرور أو الجشع».

ويبدو لنا أن هذا يصح على المدفوعين في مغامراتهم بالرغبة في البطش والعدوان والتسلط. أتصِحُّ المقارنة بين مقاتل فلسطيني في غزّة يدافع عن وطنه، وجنرال إسرائيلي جاء ليقتل مدنيين عزّلاً من السلاح؟

الشجاعة في منظور سعد الله ونوس أتت في كتابه «عن الذاكرة والموت»، وهو يروي قصة اللحظات الدقيقة التي أنبأه فيها الطبيب الفرنسي في باريس أن حالته ميؤوس منها:«حالتك غير قابلة للشفاء»، ولما اعترض ونوس على العلاج الكيماوي لأنه لن يفعل سوى تنغيص أيامه الأخيرة ومضاعفة أوجاع وآثار السرطان، قال له الطبيب: «إنك مثقف ولديك الشجاعة لمواجهة وضعك بعريٍ ومن دون تجميل». ليس الطبيب وحده من تحدث عن الشجاعة. أحد أصدقاء الكاتب المقربين الذي نقله من المستشفى إلى البيت تمنى له وهو يودعه أمام مدخل البناية: الشجاعة.

لحظتها تساءل ونوس بينه وبين نفسه: «ما معنى الشجاعة؟ وماذا تفيد الشجاعة رجلاً تقرر رحيله؟ ولماذا ينبغي أن أكون شجاعاً؟ لماذا لا يحق لي أن أنهار، وأن أعول، وأن أبكي. باغتتني رغبة حارة بالبكاء، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين، لم أجد بعدهما ما أذرفه».

لا دموع ليذرفها