سعد يكن: لستُ متفائلا بمستقبل الإنسانية

يرفع شعار “أنا أرسم إذن أنا موجود”

لا تنفصل التجربة الإنسانية والثقافية والمعرفية عن الفن بالنسبة إلى الفنان التشكيلي السوري سعد يكن، بل هي الجوهر الذي يقدم من خلاله رؤيته للإنسان وللعالم، لتتجاوز اللوحة معه الأبعاد التقنية للرسم، ولتكون موقفا شخصيا من الأحداث والتاريخ والأساطير والتراث.

لم يتبع يكن خط الدراسة الأكاديمية، بل استنهض ذاته وقرّر كيف يريد أن يرسم العالَم، فبعد انتهاء سنته الأولى في كلية الفنون الجميلة في دمشق 1971، غادرها في إجازةٍ لم تنتهِ إلى يومنا هذا.

سعد يكن ابن مدينة حلب 1950، ارتبط بتاريخها وشوارعها وفنها الأصيل، وتأثر بتفاصيلها من بشرٍ وحجر ومقاه وأزقة وشخوص، واعاد إنتاجها بلوحاتٍ تعكس نظرته وارتباطه وعمق وجودها فيه. هنا حوار معه.

  • لطالما شكّلت قصص التراث والأساطير مرجعية أولى للوحاتك، مثل قصة “ألف ليلة وليلة”، و”ملحمة جلجامش”، وأيضا التراث الحلبي تحديدا، بدءا من المقاهي الشعبية وحتى الشخصيات الشهيرة وفي مقدمها مثلا المطرب صبري مدلل، أين تكمن أهمية التراث بالنسبة إليك، وكيف يمكن استحضاره دون الوقوع في أسر التراث بعيدا من قيم الحداثة الفنية؟

تنطلق علاقتي مع التراث من مفهوم إنساني، فتناولي الأساطير التاريخية للمنطقة هو لتجسيد الفكر، قيمة الفكر الإنساني الذي تحمله الأساطير القديمة، وبصورة خاصة الفكر القائم على أساس معرفي وتجريبي مثل عوالم جلجامش وألف ليلة وليلة. لذلك لم أتناول موضوعاتي بالطريقة الشكلية للمفهوم الجمالي للشكل، وإنما بالمفهوم النفسي والمضمون الإنساني لما تحمله الميثولوجيا القديمة من أهمية وتاريخ.

مدينة حلب هي المدينة التي أستوعبها وتستوعبني بمحبة نتيجة علاقة تاريخية مرتبطة بيومياتي وبعلاقاتي المباشرة مع الفضاء المديني

أعدتُ صياغة “ملحمة جلجامش”، و”ألف ليلة وليلة” برؤيتي الشخصية، وحاولتُ تقديم موقف جديد مختلف عن فكرة الرواية أو تجسيد الأحداث مباشرة، في سبيل الوصول إلى قيم فكرية ومعنوية تضاهي القيم الفكرية والإنسانية والمعنوية التي قدمتها الملاحم القديمة بما فيها الأساطير المذكورة وغير المذكورة.

الحداثة

في موقفك من الحداثة ترى أنها ليست أسلوبا بل موقف وسلوك، وفي الوقت نفسه فإن نظرتك الى الإنسان لم تتغير…

في الواقع فكرة الحداثة هي فكرة نظرية لأنها غير مرتبطة مباشرة بالتجديد أو آلية التجديد للمدارس الفنية أو للأسلوب أو للتقنيات المعاصرة. فالحداثة قضية لها علاقة بالثقافة، فالفنان عندما يكون مثقفا يكون فكره مرتبطا بالثقافة العامة الموصولة بالحياة اليومية والاجتماعية والإنسانية عامة، لذلك فإن تطوير عمله الفني والخلاص من موضوع التكرار وواقعية الشكل، هو الذي يؤدّي إلى الحداثة، وهو في ذاته ما يجسّد الرؤية المميزة للفنان من خلال علاقته مع لوحته. لذلك، فإن الحداثة مرتبطة في الدرجة الأولى بشخصية الفنان ومن ثم بعمله، ولا شك أنه كلما كان الفنان مرتبطا بالثقافة الحياتية ارتباطا أعمق، كان أقرب إلى مفهوم الحداثة.

 

ShutterstockShutterstock

قلعة حلب.

من المعروف ارتباطك القوي بمدينتك حلب، ما هي حلب التي تراها، وكيف تصفها لنا، أنت الذي تعيش منذ سنوات في بيروت؟

 علاقتي مع حلب عميقة جدا وعضوية، ليست علاقة سياحية. عشت وتربيت في مدينة حلب وتاريخها القديم ورائحة الحجر والإنسان على الرغم من اختلاف الظروف منذ بداية القرن الحادي العشرين. مدينة حلب هي المدينة التي أستوعبها وتستوعبني بمحبة، نتيجة علاقة تاريخية مرتبطة بيومياتي وبعلاقاتي المباشرة مع الفضاء المديني والحجر والهواء والشجر وجميع هذه التفاصيل الجمالية.

كوني حلبيا، أعطاني فرصة لمتابعة الموسيقى الحلبية والمطربين والفنانين التشكيليين الكبار من أبناء حلب المدينة. هؤلاء جميعهم كان لهم تأثير مباشر على عملي من خلال تقديمي لهم برؤية جديدة غير مباشرة وغير توثيقية، وإنما ضمن رؤيتي الذاتية للموضوع الإنساني الذي تناولوه، إن بطربهم أو بلوحاتهم الفنية أو بحياتهم.

بالنسبة إلى كوني أقيم في بيروت منذ فترة طويلة نسبيا، وبعدما حدث الاعتداء على حلب في العام 2011-2012، استولى المسلحون على مرسمي وحرقوا اللوحات والمكتبة، وأنا نفسي خُطفت مرتين، لذلك فضلتُ العيش في مكان أكمل فيه مسيرتي الفنية، واخترت بيروت لأن تاريخ علاقتي معها قديم، وسبق أن أقمت فيها معارض عدة قبل الأحداث، وكانت لديّ علاقات فنية وإنسانية في بيروت استطعتُ من خلالها تحقيق التوازن النفسي، على الرغم من حنيني الجارف إلى مدينة حلب، وحبي للإنسان الحلبي.

الفن هو موقف من الإنسانية ومن التاريخ والواقع والسياسة والثقافة

الفن اليوم

كيف ترى دور الفن اليوم، بالتوازي مع اختلاف النظم السياسة والاجتماعية؟

الفن بدأ منذ أن ارتبط بالفكر وبالتجربة الحياتية وبالثقافة ولم يعد ممكنا فصلُ أي فعلٍ إنساني عن السياسي. من هذا المنطلق أصبحت للفن علاقةٌ مباشرة أو غير مباشرة بالحياة، حسب ثقافة الفنان، إذ خلال أدائه وعبر أعماله، لا بد له من أن يخرج من الدائرة التسجيلية ليصل إلى مرحلة التعبير عن الذات، من خلال الموقف الشخصي تجاه العالم. الفن هو موقف من الإنسانية والتاريخ والواقع والسياسة والثقافة. الفن هو مجمل معطيات لا يمكن تحديدها بفكرة واحدة لها علاقة بمفهوم التسجيلية، وأسخف اللوحات هي اللوحات التسجيلية لأنها خاوية من الفكر والمضمون الحقيقي، ومرتبطة فقط بالقضايا الجمالية، وهذه القضايا الجمالية يتمكن منها أي مبتدئ وأي طالبٍ دارس من خلال تقنيات الفن وماهية الرسم. الفن موضوع مختلف، له علاقة بالعمق الإنساني البحث، من هنا تأتي قيمة اللوحة المعاصرة، وفي رأيي لا يمكن فصل أي فعل إنساني عن السياسة في بداية هذا القرن. 

 

من أعمال الفنان سعد يكن – لوحة أم كلثوم.

تمارس رسم الشخصيات، منذ مواظبتك لما لا يقل عن عام لتسجيل حركة الممثلين على مسرح الشعب في حلب ومسرح الحمراء في دمشق، ما أثر المسرح على تجربتك الفنية؟

من خلال انطلاقتي في عملي الفني بدأت أرسم دراسات مع لؤي كيالي في حلب، من هذا المنطلق أحببت حفلات المسرح والحفلات الموسيقية وكنت أحضرها وأعمل اسكتشات ودراسات. لم أكن أحمل هذا الفكر الذي صرت أحمله بعد الزمن الطويل الذي مررت به، لكن كان لا بد من أن أمر بهذه التجربة المرتبطة بالرسم والتعبير عن المسرح والموسيقى والحركة التشكيلية المباشرة، من خلال دراسات اللوحات أو الأشخاص. هذه أعطتني نوعا من الغنى، وفي ما بعد أعطتني ان اختار الموضوعات والأشكال والتقنية الخاصة باللوحة. المنطلق الذي أعمل وفقه حاليا هو نتيجة كل تجاربي السابقة من دراسات واسكتشات وأعمال بالقلم الرصاص. في سنة ألفين كان لديّ عشرون ألف عمل اسكتش بقلم الرصاص. وفي السنوات العشر السابقة كنت كل يوم أرسم، كل يوم أعمل مجموعة، وأنا أتمشى، أو وأنا في الحديقة أو في المقهى أو المسرح. وهذا ساعدني جدا في اختيار الأشكال وسَهَل عليّ إيجاد طريقة، في ما بعد، من خلال موقفي الفكري من العالم ومن الثقافة ومن اللوحة. 

بدل استكمال الدراسة في كلية الفنون الجميلة في دمشق، تلمستَ المعاناة الداخلية والفاجعة لتشكل أسلوبك الفني الخاص، ما تلك المأساة وما عنوانها؟

انتسابي الى كلية الفنون الجميلة في دمشق سنة 1971-1972 كان روتينيا وليس نتيجةَ رغبة عميقة لديّ، وفي مسابقة القبول للكلية كان ترتيبي الأول، على الرغم من ذلك داومت سنة، وبعد سنتين ذهبت في إجازة إلى حلب ولم أعد حتى الآن. عندما ذهبت إلى الكلية لإجراء فحص القبول كنت أدعو في الوقت نفسه أساتذتي إلى افتتاح معرضي الثالث في المركز الثقافي العربي في منطقة أبو رمانة. كنت نشيطا خارج دائرة القيمة. لم يكن يعنيني أن لوحاتي مهمة أم غير مهمة، في ذلك الوقت كان المفهوم أبسط ضمن ثقافتي المحدودة.

 

من أعمال سعد يكن.

السبعينات

في السبعينات كانت هناك نهضة متكاملة، ليس في التشكيل وحسب وإنما في الأدب والمسرح، ماذا حدث لتلك النهضة، بماذا اصطدمت؟

– لا شك أن الحركة التشكيلية السورية كانت مذهلة في السبعينات، ضمت الرواد الكبار الذين قدموا إنتاجا هائلا ورائعا جدا على مستوى التشكيل السوري والعربي والعالمي، لكن هؤلاء انحسروا كثيرا للأسف مع الوقت ضمن ظروف الحياة الصعبة والأزمات الأخيرة وبعدما توفى معظمهم. لكن أهميتهم بقيت من خلال الأجيال اللاحقة من الفنانين، فقد ساعدتهم على تطوير مفاهيمهم الإيجابية وطروحاتهم الجمالية، من خلال تجربة فنية غنية تحمل كل ظروف الإبداع وشروطه. فالفن التشكيلي السوري كان متجاوزا للأزمة الاجتماعية والإنسانية السورية في تلك المرحلة، لأن الفن كان دوره متطورا أكثر، وكان جماهيريا نسبيا في تلك المرحلة بصورة أفضل. كانت هناك نهضة ثقافية رائعة في السبعينات، لكن مع الوقت حصل انخفاض في التواتر الثقافي. لكن ما زالت هناك مجموعة من الفنانين الذين خرجوا من تلك المرحلة متمكنين وقادرين على تقديم إنتاج فني هائل وجميل.

أتمنى مع الوقت أن يكون هناك في المجال التشكيلي وعي أكبر لدى المؤسسات الثقافية لدعم الفن التشكيلي والموسيقى والأدب والشعر

مشكلة الفنان هي مشكلة المتلقي، هذه المشكلة هي الأمية الثقافية في الفن التشكيلي. فالفنان ليست مهمته كأستاذ المدرسة أن يعلم الناس كيف يروا اللوحة. كي يكون هناك وعي ثقافي بالفن التشكيلي السوري أو العربي أو العالمي، يجب على مؤسسات الدولة الثقافية والمدارس والمراكز الثقافية أن تأخذ المبادرة لخلق توعية جماهيرية بقيمة الفن وأهميته، وأهمية الفنانين الذين يمارسون هذا الدور من خلال عطائهم في الثقافة والمعرفة.

 

من أعمال سعد يكن.

المستقبل

كيف تنظر إلى الواقع الراهن في سوريا وخارجها وهل أنت متفائل بالمستقبل؟

 موقفي من الفن بسيط كما عبرت عنه مرة، “أنا أرسم إذن أنا موجود”. لكن هذه الفكرة نابعة من تجربتي الشخصية الثقافية وليست فقط تجربة تقنية في الرسم. هذه التجربة الثقافية الإنسانية الداخلية ضمن علاقتي اليومية مع المجتمع، أوصلتني إلى هذه الرؤية التعبيرية التي أقدم بها أزمة الإنسان وغربته ووحشته وعلاقته مع ذاته. بالنسبة إلي لستُ متفائلا بمستقبل الإنسانية ضمن معرفتي وثقافتي على المستوى الشخصي، يعني لا أرى نورا في آخر النفق. الاحداث الداكنة التي مرّت بسوريا دمرت المشاعر ودمرت الإنسان السوري من خلال حاجاته الأساسية التي عجز في ما بعد عن تأمينها. لكن هذه المشاكل مجتمعة تلعب دورا كبيرا جدا في الفن وإنتاج مجموعة من الفنانين، ليس فقط الإنتاج الفني للتعبير عن الأزمة الإنسانية. التذوق أحيانا في الفن التشكيلي يحتاج خلفية ثقافية لدى المشاهد، وهذا شيء نفتقده. أتمنى مع الوقت أن يكون هناك في المجال التشكيلي وعي أكبر لدى المؤسسات الثقافية لدعم الفن التشكيلي والموسيقى والأدب والشعر. علاقتي مع الطبيعة انحسرت قليلا نتيجة اهتمامي في الدرجة الأولى بالإنسان، لكني أرسم الطبيعة أحيانا، خصوصا البحر، أحب البحر كثيرا لكن ليس البحر الأبيض المتوسط، أحب تناول البحر كمحيطات هائلة على الرغم من أني لم أرها سوى في السينما، مع ذلك أقدم مجموعة رسومات كل سنة عن البحر برؤيتي التعبيرية خارج دائرة الواقع، على سبيل الاستراحات الجمالية والتنفس خارج دائرة الإنسان الموازي لوجودي، والذي كنت مستعدا دائما عبر كل أعمالي الفنية من باب تطوير حياته وتحسين واقعه في سبيل الوصول إلى قيم جمالية إيجابية تخرج عن المألوف والواقع.

سعد يكن: لستُ متفائلا بمستقبل الإنسانية

المجلة