«آنا» لا تقرأ

حسن مدن

في مقابلة صحفية معه، ذكر الناقد الراحل جابر عصفور، ورداً على سؤال وجّه إليه عن اهتمامه بمتابعة ما يصدر من روايات، سواء في مصر أو سواها من البلدان العربية، أن الرواية التي تشدّه من صفحاتها الأولى، أو ما يليها بقليل، يستمرّ في قراءتها حتى يكملها، أما الرواية التي لا تترك صفحاتها الأولى الأثر نفسه لديه، فإنه يصرف النظر عن مواصلة قراءتها، وينصرف إلى رواية أخرى.

الحديث هنا يدور عن ناقد أدبي ومثقف كبير شغوف بفن الرواية، ومؤلف كتاب «زمن الرواية»، ما يحملنا على القول إن لديه من الخبرة وسعة الاطلاع ومهارة التقاط ما هو مميز ولافت من الأدب، ومع ذلك، فليس جابر عصفور وحده مَنْ يواجه هاتين الحالين النقيضتين من الشعور إزاء ما نقرأ، فإما أن يشدّنا الكتاب، سواء كان رواية أو سواها، من صفحاته الأولى، أو تصيبنا هذه الصفحات بالضجر، ما قد ينفرنا من مواصلة القراءة، وليسوا كثراً أولئك الذين لديهم ما يكفي من الصبر على مواصلة القراءة في كتاب لا يبدو جاذباً من بدايته.

الحقيقة أن جاذبية الكتاب أو عدمها ليسا هما وحدهما ما يحددان علاقتنا بالقراءة، ونحن نقرأ، فقد يكون الكتاب جاذباً فعلاً، ولكن ثمّة خواطر أو هموماً أو مشاغل تقفز إلى الذهن مباشرة، تستحوذ على تفكيرنا لحظة القراءة وتصرفنا عن مواصلتها، وحتى لو حاولنا مواصلة القراءة رغم ذلك، فإننا سنلاحظ أن تركيزنا قد تشتت أو غاب، وأن العين وحدها هي التي ترى السطور وتتابعها، أما الذهن فأبعد ما يكون عنها.

لعلّ هذا ما حدث مع «آنا» في رائعة ليف تولستوي «آنا كارنينا»، عندما كانت عائدة في قطار الليل من موسكو إلى سانت بطرسبورغ، المدينة التي تعيش فيها، وهو مشهد وقف أمامه الروائي التركي أورهان بوماق في كتابه «الروائي الساذج والحسّاس»، فحين بدأ القطار في التحرك أخرجت «آنا» من حقيبتها كتاباً محاولةً القراءة. لم تستطع في البداية الاسترسال فيها بسبب الضجة الشديدة لدرجة تعذّر معها أن تركز في المعاني، ولما انساب القطار في سيره السريع استحوذت على انتباهها ندف الثلج المتلاطم بزجاج نافذة القطار، وانصرف تفكيرها إلى «العاصفة الثلجية الهوجاء التي تزأر غضبى في الخارج».
مضى الوقت و«آنا» لا تقرأ، لكنها، وفي مسعى منها لمغالبة ذلك، أقبلت على الكتاب تتصفحه، ففهمت ما تقرأ من كلام، ولكنها كانت تفعل ذلك كارهة، وبعد استطراد طال بعض الشيء، أفصح تولستوي عن السبب: لم تتمكن آنا من التركيز لأنها كانت تفكر بفرونسكي، الحبيب الذي قابلته في موسكو!.