مارلين مونرو وآرثر ميلر… العلاقة الصعبة بين الكتابة «الصامتة» والجمال «الصارخ» – بقلم شوقي بزيع

شوقي بزيع

قد تكون العلاقة العاطفية التي انتهت بالزواج بين نجمة الإغراء الأميركية الشهيرة مارلين مونرو، والكاتب المسرحي آرثر ميلر، واحدة من أكثر العلاقات غرابة وإثارة للجدل وانغلاقاً على كثير من الملابسات في القرن العشرين. ذلك أن الفجوة التي تفصل بين رؤيتي الطرفين للعالم، أو بين طريقتيهما المتغايرتين في الحياة، هي من العمق والاتساع بما يكفي لجعل الأسئلة التي تدور في أذهان كثير من البشر مبررة ومستساغة. ليس فقط بسبب التفاوت الكبير بين شعبية الجمال المفرط الذي تجسده مارلين، والذي يهرع لمشاهدته الملايين، وبين نخبوية الكتابة التي يمثلها ميلر، بل لأن الخلق الإبداعي يتطلب الإخلاد إلى «ليل المعنى»، في حين أن الجمال المفرط يؤثر الإقامة في «عين الشمس»؛ حيث يتاح له أن يرى ضوءه في المرايا، ويتلذذ برؤية ضحاياه والمفتونين بوهجه. كما أن الجمال الفائض عن الحد «صارخ» بطبيعته، في حين أن الإبداع الحقيقي يحييه الصمت ويميته الصراخ.

وفي هذه المنازلة غير العادلة بين الكتابة والحياة – المعيشة، يجد المبدعون أنفسهم محكومين بنوع من التناقض الفصامي، بين ما يظهرونه في العلن من تبرم بالنجومية التي تمثلها المغنيات والممثلات وعارضات الأزياء، وبين ما يكنونه في دواخلهم من انبهار بهذه الرموز والرغبة في الاقتراب منها. وما زلت أذكر في هذا السياق، الطريقة التي روى بها محمود درويش، في إحدى الجلسات البيروتية التي جمعتنا، قصة لقائه «المثير» بهيفاء وهبي، بعد أن عملت صديقة مشتركة للطرفين على تحقيق ذلك. إذ إن صاحب «الجدارية»، وقد عثر بذكائه اللماح على ما تنم عنه وجوهنا اللهفى من إمارات الفضول والدهشة المقرونة بشيء من الحسد، راح يبالغ في وصف جمال هيفاء وجاذبيتها التي لا تقاوم، ما دفع الحاضرين إلى التلمظ، وطلب الحصول على مزيد من تفاصيل اللقاء. مقابل هذه الحادثة اللافتة في دلالاتها، ثمة حادثة مقابلة رفض خلالها إعلامي معروف النظر إلى وجه هيفاء أو التحدث إليها، خلال حوار تلفزيوني جمعهما، بدعوى غرقها في السطحية والابتذال السلوكي وتهالكها على النجومية، وهي التي كانت مطاردة آنذاك، بعدد غير قليل من الفضائح والشائعات.

والواقع أن هاتين الواقعتين تشكلان بما تحملانه من دلالات متغايرة أحد المداخل الهامة لفهم العلاقة العاطفية الشائكة التي ربطت بين آرثر ميلر ومارلين مونرو، الرمز الأكثر سطوعاً للإغواء الأنثوي. فما الذي أراد كل منهما أن يحققه، وهما يطلان على العالم من جهتين متغايرتين تماماً؟

لكن الإجابة عن مثل هذ السؤال المتكرر، تتطلب إضاءة ولو سريعة على ظروف ميلر ومونرو، وعلى الخلفية الاجتماعية والثقافية التي تحكمت بسلوكيات الطرفين. فميلر المولود عام 1915 كان ينتمي لعائلة ميسورة الحال قبل أن تطيح الأزمة الكبرى التي عصفت بالاقتصادين الأميركي والعالمي عام 1929، بكل ما جنته العائلة من أموال. وهو ما اضطره إلى مزاولة أعمال ومهن شاقة ومتواضعة، قبل أن يلتحق بجامعة ميشيغن، ويبدأ خطواته الأولى على طريق الكتابة المسرحية. وإذا كانت مسرحيته «موت بائع متجول» قد حققت نجاحات واسعة آنذاك، فإن ميوله اليسارية تسببت له بكثير من المتاعب، وبخاصة في الفترة المكارثية التي تم خلالها سوق آلاف اليساريين المشتبه بشيوعيتهم إلى مكاتب التحقيق.

أما طفولة نورما جين، الاسم الأصلي لمارلين، فلم تكن هانئة ومعبدة بالورود. إذ لم تكن الفتاة قد ولدت بعد، حين اكتشفت الأم خيانة زوجها لها، طاردة إياه من المنزل متأبطاً ولديه الاثنين إلى غير رجعة. وحين توفي الأب لاحقاً إثر حادث سير مروع، كان على نورما أن تعمل خادمة في غسل الأطباق. وحين أدخلت الأم بسبب خلل عقلي إلى إحدى المصحات، تم نقل الابنة إلى ملجأ للأيتام؛ حيث تعرضت للاغتصاب، قبل أن تعمل عمتها على تزويجها من الشرطي جيمس دورتي قبل بلوغها سن الرشد بسنوات ثلاث. لكن اللافت هنا هو اعتراف مارلين بنفورها من الجنس، أو لامبالاتها بشأنه، كما يرد في كتاب «قصتي» الذي تعاونت في صياغته مع كاتب السيناريو الأميركي بن هكت. وهي إذ تقول: «حين ذهب زوجي إلى الحرب لم أقم بخيانته، ليس بسبب الوفاء، بل لعدم اهتمامي بالجنس»، فالأرجح أن هذا الأمر لا يتصل بحادثة الاغتصاب وحدها، بل يبدو بمثابة دفاع رمزي عن الجسد المغوي الذي يرغب الجميع بامتلاكه، بمعزل عن عقل صاحبته وقلبها وقدراتها الفنية المتعددة.

أما زواج مارلين من لاعب البيسبول جو ديماغيو، فلم يصمد أكثر من 9 أشهر، لأن هذا الأخير كان يريد، كما يقول، زوجة تشعره بالراحة ودفء الحياة العائلية، لا امرأة هائلة الجاذبية يمكن أن تهجره في أي لحظة. وإذا كان توجس مارلين من الرجال قد قابله توجسهم منها، فقد زاد الطين بلة اقتحامها عالم التمثيل في هوليوود من بابه الواسع، وما عاينته من اهتراء سريع للعلاقات العاطفية بين الجنسين، المحكومة بالأنانية والتكاذب والملل المتبادل. وهو ما يؤكده قولها في السيرة إن «الأزواج يمكن أن يكونوا عشاقاً لطفاء، وبخاصة حينما يقومون بخيانة زوجاتهم».

في هذا المناخ من الضياع والبلبلة النفسية تلتقي مارلين في إحدى المناسبات بآرثر ميلر، الذي لم يتوانَ رغم طبعه الجاد عن القدوم إلى طاولتها مبدياً إعجابه الشديد بجمالها وذكائها ونجاحها الفني. وقد بادلت مونرو الكاتب الثلاثيني الإعجاب نفسه، وهي التي كانت في أمسّ الحاجة إلى رجل مثله يبعدها عن صورتها النمطية، ويعطي لحياتها معنى أكثر قيمة وعمقاً. وحيث كانت مارلين قد قرأت كثيراً من أعمال ميلر، ولا سيما مسرحيته المميزة «موت بائع متجول»، تمنت في قرارتها أن تلعب دور زوجة ويلي لومان التي تضحي بزوجها من أجل المال، قبل أن تعدل عن ذلك خوفاً من أن يخلط الجمهور بين دورها في العمل، وبين طبيعتها الحقيقية.

أما آرثر ميلر الذي أدرك أن مناعته ككاتب ومناضل يساري لن تصمد طويلاً أمام جمال مارلين الآسر، فقد راح يحدثها دون توقف عن شؤون الأدب والفلسفة والسينما والمسرح، وكأنه يريد أن يبعد المرأة الفريدة التي يجالسها، عن ملعب تفوقها الجمالي الذي لا قِبل له بمجاراته، ليأخذها إلى ملعب تفوّقه المقابل في مجالي الثقافة والإبداع. والأرجح أن ميلر الممزق بين زهوه الواضح بانتزاع أيقونة هوليوود الجمالية من براثن مئات المنافسين، وبين خوفه من التأثير السلبي لتلك المجازفة على مسيرته الإبداعية والنضالية، كان يراهن للخروج من المأزق على تقريب مارلين من عالم الثقافة والأدب، والسياسة أيضاً، بقدر ما يستطيع. ولعل عدم اتصال ميلر بمارلين لأيام كثيرة لاحقة، يجد تفسيره الفعلي في الصراع الذي كان يعتمل داخله بين الاستسلام لضوء الجمال الباهر، وبين التحصن بعالم الكتابة والتأليف، البعيد عن الصخب الاستعراضي. أما مارلين التي رأت في الكاتب الشهير فرصتها الملائمة للنأي بجمالها عن هشاشة السطوح، ولاستنقاذ نفسها من بؤس طفولتها ومن إدقاعها العاطفي المتكرر، فهي لم تتوانَ عن الاتصال بميلر الذي ألقى بأسئلته المؤرقة إلى سلة المهملات، بمجرد اتصالها به لدعوته إلى حفل عيد ميلادها. ولم يطل الأمر حتى بدأت لقاءاتهما تتكرر، ليدخلا في علاقة عاطفية طويلة استمرت 5 سنوات كاملة، قبل أن يحسما قرارهما بالزواج عام 1956.

والواقع أن هذا الزواج لم يكن ليتم لولا إصرار الطرفين على الوصول بمركب علاقتهما العاطفية إلى بر الأمان، وسط كثير من المكائد والاعتراضات والعوائق. فميلر كان ما يزال عرضة للتحقيقات والملاحقات، فيما كانت مارلين تواجه ضغوطاً شديدة من قبل شركات الإنتاج السينمائي للتخلي عن الكاتب المسرحي المؤيد للشيوعية. لكن العوائق الكثيرة التي وقفت في طريق الطرفين هي التي وفرت لهما متعة التحدي، والإصرار على العيش تحت سقف واحد. وقد بذلا خلال فترة الزواج، التي استمرت 5 سنوات، جهوداً مضنية لتقليص ما يفصلهما من تباينات، وللتشارك في الاهتمامات، فبدأ ميلر بحضور الحفلات والسهرات الصاخبة التي تحضرها رفيقته، في حين أن مارلين بدأت تهتم بتثقيف نفسها، وقراءة كثير من الكتب في مجالات التاريخ والشعر والرواية وعلم النفس. وحيث بدت مأخوذة تماماً بشخصية الزوج وبثقافته العميقة، تصف براعته في الحوار بالقول: «في كل مرة يتحدث، كان العالم يبدو أكثر رحابة وأكثر بعثاً على الحماسة». أما ميلر فقد كتب في مذكراته: «كانت كالضوء الذي يحيطني، تثيرني تناقضاتها وغموضها». كما كتبت كاترين كروهن في «حلم نورما جين» أن أحداً لم ينظر إليها بالطريقة التي فعلها ميلر، وأنه حثها على التنقيب عن جمالها الآخر الذي يشع من جهة الروح والمعرفة، وصولاً إلى تحريضها على الكتابة، ولو بموهبة متواضعة.

على أن الزواج لم يكن الخاتمة السعيدة التي غالباً ما تنتهي بها السيَر والروايات العاطفية. ذلك أن طفولة الطرفين البائسة والمحكومة بالحرمان العاطفي، جعلت كلاً منهما غير قادر على تعويض الآخر عما ينقصه من المؤازرة والتفهم والحنان. ومع أن ميلر لم يكن يحب العمل في الأفلام فهو لم يتردد في كتابة سيناريو خاص بفيلم «حياة متمردة»، الذي لعبت فيه مارلين دور البطولة. إلا أنه رغم ذلك لم يستسغ على الإطلاق أداء زوجته المفرط في الجرأة إلى جانب إيف مونتان في فيلم «دعنا نمارس الحب»؛ حيث أكد كثيرون قيام علاقة عاطفية سريعة بين إيف ومونرو.

بعد ذلك تسود الفوضى، لتبدأ بالنسبة لمارلين فترة الإدمان على الكحول وتعاطي المخدرات. الأمر الذي بدا غير محتمل بالنسبة للزوج، الذي آلت كل جهوده للمواءمة بين عالميهما المتباعدين إلى الإخفاق، وصولاً إلى الانفصال النهائي. أما ردة فعل مارلين فكانت الذهاب في خيار استثمار جمالها «الجهنمي» حتى النهاية. الأمر الذي انعكس جلياً عبر علاقاتها المتعددة مع رجال كثيرين، بينهم الرئيس الأميركي الوسيم جون كينيدي وأخيه روبرت، إضافة إلى ما قيل عن إجهاضها قبيل الانتحار لجنين مجهول الوالد. وسواء صح ما قيل عن أنها قضت اغتيالاً بالسم لأمور متعلقة بالأمن القومي الأميركي، أم انتحاراً بالمهدئات، أم بجرعة زائدة من المخدرات، فإن رحيلها في السادسة والثلاثين من العمر هو الذي أسهم في رفعها إلى سدة الأسطورة. وإذا صح ما قيل من أن رواية «مدام بوفاري»، التي أهداها لها في عيد ميلادها، قد وجدت قرب سريرها لدى قدوم الشرطة، فإن ذلك يعني أن ميلر كان يستشرف من خلال إهدائها الكتاب، مصيرها المأساوي المماثل؛ حيث يثبت مرة أخرى أن الحياة هي من يقلد الفن، وليس العكس. كما أن انتحارها المأساوي بدا أشبه بحادث سير رهيب تسبب به ضوء جمالها الباهر وهو يحول بينها وبين رؤية الحياة الحقيقية. والواضح أن زوجها الثالث قد جسد بالنسبة لها خشبة الخلاص التي تمّ رفعها في لحظة قاتلة. وبينما وصفها ميلر من جهته بالفتاة الأكثر حزناً التي قابلها في حياته، وبأنها «أشبه بشاعرة تقف على ناصية الطريق لكي تتلو قصائدها، أمام جمهور لا يهمه سوى شدّ ملابسها قدر ما يستطيع»، أهدته من جهتها قصيدة تقول فيها:

حبي ينام بجانبي

تحت النور الخافت أرى فكّه الرجولي

فم صباه يتراجع ثم يعود

بعذوبة لا نظير لها

رقته ترتعش في سكونه

وعيناه لا بد أنهما تطلان بذهول

من أحد الكهوف

لكنْ هل سيبدو كذلك حين يموت؟

مارلين مونرو وآرثر ميلر… العلاقة الصعبة بين الكتابة «الصامتة» والجمال «الصارخ» – بقلم شوقي بزيع

جريدة الشرق الأوسط

اصدارات العويس