في زمن الوباء.. المنزل حُريّة والشارع سجن – بقلم أمجد عرار

امجد عرار

مقولات من نوع «نحن في المنزل كمن في السجن»، نسمعها كثيراً في اتصالاتنا الهاتفية مع أقاربنا وأصدقائنا القابعين في البيوت ضمن إجراءات العزل المنزلي، أو الحجر في البيوت، تحقيقاً لمبدأ مهم وأساسي في زمن الأوبئة، والآن في زمن «كورونا». من يشبّه الحجر المنزلي بالسجن يجانبه الصواب، وليس فقط دقّة الوصف.

السجين نوعان، الأول شخص ارتكب جناية أو أجرم بحق الآخرين أو الوطن فاستحق العقوبة بوضعه خلف القضبان لفترة تتلاءم مع جريمته، والثاني قاوم محتلاً لأرضه فتحوّل إلى مقاوم لا يروق للمحتل فيزج به في الأسر ليمنعه من أداء دوره في المقاومة والتأثير الإيجابي في الآخرين. لكن، في كلتا الحالتين ثمّة طرف يصادر حرية الإنسان ويمنعه من ممارسة حياته الطبيعية، وإن كان السجن في حالة المقاومة خياراً أو ناتجاً عن خيار، أي اختيار سبيل يفضي لمصادرة حرية الفرد في سبيل تحقيق حرية الشعب والوطن.

الحجر المنزلي حالة تختلف تماماً في الشكل والمضمون، وتلتقي مع سجن المقاوم في الهدف، إذ إن كليهما – وإن كانا مفروضين من سلطة أو قوة قانون – يهدفان لخدمة الشعب، حريته وسلامته ومستقبل أبنائه. الحجر المنزلي في جوهره اختيار لمن يعي أهدافه وأبعاده ويحوّله إلى فرص تحقق ما لم يكن ممكناً بسبب قضاء معظم الوقت خارج المنزل لسبب أو آخر.

لننظر إلى النصف الملآن من الكأس، فإذا كان الأسير قادراً على توظيف الوقت في السجن في تثقيف نفسه، وتعلّم بعض الأعمال اليدوية، وممارسة بعض الهوايات الفنّية، فإن الحجر المنزلي يتيح مجالاً أكثر رحابة في تحويل البقاء في المنزل من حالة يكتنفها الشعور الجبري إلى فرصة اختيارية.

حالة وعي

الاختيار هنا حالة وعي تمثل معنى حقيقياً وليس مزاجياً أو افتراضياً، ولا ينطوي الأمر على فذلكة كلامية، لأنه اختيار واحد من طريقين، الأول أن تغادر المنزل فتصبح أسير القلق والخوف من أنك يمكن أن تعود إلى المنزل ومعك عدوى قاتلة أو مؤذية لنفسك وأسرتك وجيرانك ومجتمعك الذي إن أصيب أي من أفراده لن تكون أنت في مأمن، أو أن تبقى في البيت فتحقّق السلامة والأمان لنفسك ولكل الذين تحبهم. في زمن الوباء، يكون الطريق الأول حريّة كاذبة وقاتلة، ويكون الطريق الثاني قيداً شكلياً لكن فيه حرية حقيقية.

فوق كل هذا المعنى الحقيقي للحرية الكامنة في خيار البقاء في المنزل، ثمّة وجه آخر، إذا اعتمدنا تدوير المسألة للنظر من زوايا أخرى، وجه يضاف إلى الوقاية وإزالة القش من طريق الحريق. الكثيرون منا طالما اشتكوا من أنهم لا يملكون وقتاً كافياً لقضائه مع الأسرة، وبخاصة من لديهم أطفال. الحجر المنزلي فرصة لتعويض كثير من النقص في هذا الجانب، وإجازة من ضغوطات الحياة وضجيج الشارع.

الكثيرون يشكون من فقدانهم الوقت للقراءة، ومنهم من مرت سنوات لم يفتح فيها كتاباً. هذه الأيام أداة فعّالة جداً لكسر الملل وتغيير الروتين اليومي أثناء فترة الحجر، من خلال قراءة الروايات والأشعار والكتب التاريخية، وربما حل الكلمات المتقاطعة، وفي هذه الوسيلة فائدة معرفية وفرصة لتمضية الوقت في خيار مفيد.

اهتمامات

بعضنا لديه اهتمامات فنية مثل الموسيقى والرسم والنحت. أليس التواجد في المنزل فرصة لمن يملك ملَكة العزف أو التلحين لتحقيق إنجاز كان عصياً أو بحاجة لوقت تراكمي طويل أو أوقات متفرّقة؟ أليس فرصة للاستماع إلى مقطوعات الموسيقى والأغاني التي نحبّها، إن كنا لا نمارس العزف؟ أليس فرصة لإنعاش المخيّلة في الرسم لنَخرُج من هذه المرحلة بلوحات تُخرج ما في دواخلنا من جمال؟

أما الإعلامي فهذه فرصته للغوص في ملفات كان يفتقر لمعلومات عنها. ومن يحب مشاهدة الأعمال السينمائية والدرامية والمسرحية، يتحصّل على الفرصة لمشاهدة كل ما كانت ضغوطات الحياة والعمل تحجبها عنه.

لكل شخص تقريباً هوايات معينة يعتد بها دون غيرها، مثل الاهتمام بالحديقة أشجاراً وأزهاراً وطيوراً، أو التفنن في شؤون الطبخ، أو القيام بمشغولات يدوية، أو ممارسة لعبة الشطرنج، إلا أن ضغوط العمل والدراسة وزحمة الالتزامات وضيق الوقت تجبر الإنسان على التفكير في هذه الهوايات بحسرة نابعة من الإحساس بعدم القدرة على ممارستها. ها هو الحجر المنزلي يتيح هذه القدرة إلى حد كبير ويتيح وقتاً للأفراد لممارسة هوايات مركونة على رف الحسرة.

وبعد كل ما ذكر، حياتنا وحياة من نحب مسؤوليتنا، وهي تستحق منا أن نفكّر في تداعيات سلوكنا علينا وعلى الآخرين، ذلك أن الفيروس عدو غير مرئي، لا يمكن تحديه بالوسائل التقليدية. الاستهتار حليف هذا العدو، والعضلات لا تدركه، والقبضات لا تنال منه. العقل فقط هو وسيلة مواجهته والانتصار عليه. والعقل يقودنا للوسيلة الأولى الناجعة، وهي البقاء في المنزل من دون تأفّف.

جريدة البيان