You are currently viewing عالم الاجتماع المصري أحمد زايد: الحداثة العربية شكلية يقودها التناقض – بقلم محمد الحمامصي

عالم الاجتماع المصري أحمد زايد: الحداثة العربية شكلية يقودها التناقض – بقلم محمد الحمامصي

عالم الاجتماع المصري أحمد زايد: الحداثة العربية شكلية يقودها التناقض – بقلم محمد الحمامصي

يشهد المجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية إشكاليات كثيرة، يرتبط بعضها بقضايا اجتماعية، وبعضها الآخر بقضايا دينية وتعليمية وثقافية، الأمر الذي ينعكس سلبا على العقل والضمير الجمعيين، فنرى ما نتابع ونراه من تنامي ظواهر كالتطرف والتكفير والتحريم والخروج على كافة أشكال السلطة، وتتعدد التساؤلات حول الأسباب التي أدت إلى ما نحن عليه، على الرغم من الجهود التي تبذل للحيلولة دون تنامي تلك الظواهر.

“العرب” دفعت بالكثير من التساؤلات الخاصة بالمشهد المجتمعي العربي عامة والمصري خاصة إلى الدكتور أحمد زايد أستاذ علم الاجتماع وعضو مجلس الشيوخ المصري والعميد الأسبق لكلية الآداب بجامعة القاهرة، والذي التقته في حفل توزيع جائزة مؤسسة سلطان بن علي العويس بدورتها السابعة عشرة حيث فاز بجائزة فرع الدراسات الإنسانية والمستقبلية.

يعد الدكتور أحمد زايد أحد أبرز علماء علم الاجتماع الآن، وذلك بمشروع علمي انطلق أوائل السبعينات من القرن العشرين واشتغل فيه على الحياة الاجتماعية في مصر والمجتمع المدني والخطاب الديني والعنف، وقدم خلاله العشرات من المؤلفات والدراسات والبحوث من أبرزها “تناقضات الحداثة في مصر”، “البناء السياسي في الريف المصري”، “صور من الخطاب الديني المعاصر”، “صوت الإمام الخطاب الديني من السياق إلى التلقي” و”الدين والعلمانية.. جدلية الانحصار والانتصار” و”الحداثة: الولوج والوعد والمراجعة” وغيرها.

انطلاقا مما يشهد المجتمع المصري وبعض المجتمعات العربية من هوس بالخروج على التقاليد والعادات الشرقية والعري والجنس مقابل هوس العنف والتطرف والتكفير والتحريم، يقول زايد إن “نمط الحداثة العربية يقوم على تناقض كبير بين الماضوية والسعي إلى وراء الحداثة بنمط معين، نمط يسعى وراء مظاهر الحداثة؛ المظاهر الكاذبة، أو المظاهر الغريزية فيها، كتلك المتصلة بالاستهلاك سواء كان هذا الاستهلاك طعاما أو شرابا أو استهلاكا بصريا أو مسموعا، وكل صور الاستهلاك التي نعرفها والمبالغة فيها والسعي وراء التميز فيها، وخلق أشكال من الرمزية الاستهلاكية، كما لو كنت أخاطب العالم بـ’أنني أستهلك إذن أنا موجود’”.

ويضيف “أيضا من الأمور التي نجري وراءها في الحداثة هي الأمور الغريزية المتصلة بالقشور الفنية في الحداثة؛ الحداثة فيها فن راق؛ مثل الأوبرا والموسيقى الكلاسيكية الراقية والفنون التصويرية والتعبيرية المختلفة في السينما والمسرح، وفي كل المجالات الثقافية. نحن استعرنا بعض هذه الفنون وثمة أمور جيدة ومفيدة، ولكن دخول الفن العربي للحداثة من الجوانب الاقتصادية والاستثمارية والتجارية، حوّل الذائقة الجمالية إلى ذائقة غريزية تجري وراء الأشياء مثلما تجري وراء الاستهلاك لملء المعدة، تجري وراء الصور المختلفة من الاحتفالات والأغاني التافهة والموسيقى الاحتفالية الغريزية التي تثير المشاعر الغريزية والفوضى والجلبة وغير ذلك، حتى أنه يتم تحويل أداة السينما والدراما التي من المفترض أن تقدم فائدة مجتمعية وثقافية وتنموية، وذلك بحجة تطويرها إلى الأحدث، لتكون أداة هادمة تقدم أشياء تؤثر تأثيرا سلبيا على المشاهدين. إننا نأخذ من الحداثة قشرتها”.

الحداثة القشرية

يقول زايد “الجانب الآخر من التناقض أننا نسعى إلى قلدنة الحداثة، وأخذ الأمور جميعا على أنها أمور تقليدية، وفي ذات الوقت نعود إلى التقاليد ونأخذ منها ما يدعونا إلى أن نكون غلاظا شدادا في فهم الدين ومتطرفين إلى أقصى مدى في فهم الأمور والسلوكيات الدينية، وندافع عن الماضي أكثر من دفاعنا عن الحاضر وتوجهنا إلى المستقبل، نختار من الأمور الماضوية، التي من المفترض في الحداثة والعقل الحديث أن يتم رفضها مثل الشعوذة والسحر والحسد، ونهتم بها ونقدم حولها برامج تلفزيونية وإعلامية، ونؤمن بها على مستوى السلوك والفكر. هذا هو التناقض الذي يوجد في العقلية العربية والمصرية”.

ويضيف المفكر المصري “دعنا نتحدث عن العقلية المصرية بحكم كوني أقرب لها ودارسا لمجتمعها دراسة عميقة، هذا التناقض كبير جدا ما بين الجنوح إلى الماضي والذهاب إلى كل صور التطرف والغلو في استعادة المجتمعات القديمة واستعادة الخلافة، وفي نفس الوقت الاستمتاع الكبير جدا بأمور الحياة الدنيا. بالطبع هذه النزعة لا تظهر لدى كل فئات المجتمع، إنها تظهر أكثر بين المتعلمين من أبناء الطبقة الوسطى”.

ويتابع “طبعا الطبقة الوسطى المصرية تفككت من الداخل وأصبحت تضم عدة فئات، منها فئة عليا من رجال الأعمال والأثرياء وذوي السلطة، ومنها فئة أصحاب المهن كالمهندسين والمحامين والقضاة والإعلاميين وضباط الجيش، ومنها طبقة تقدر بـ40 في المئة تشمل عموم الموظفين الذين تعلموا تعليما جامعيا ويعانون اجتماعيا نتيجة قدر كبير جدا من الحرمان، حتى أن البعض يدرجهم ضمن الفئات المحرومة. في هذه الفئة الأخيرة يبدأ التنطع والتطرف أكثر من الفئات الأخرى وخاصة بين شبابها وأجيالها الجديدة، ومن ثم فإنه يتجلى فيها هذا التناقض الذي أتحدث عنه، فالتعليم هنا ضعيف وغير قادر على خلق المواطن الصالح. ومن ثم فإن هذا التناقض يساهم في تحجيم العقل ووقف نموه وإفساد عملية خلق عقلية جديدة حديثة رشيدة”.

ويشدد على أن “التعليم يلعب دورا محوريا في خلق هذا التناقض، وطالما أن العقل ضعيف والتفكير العلمي ضعيف، فمن الطبيعي أن يكون التفكير الغريزي أكثر قوة في حضوره، وكلا الطرفين في عملية الاستقطاب التي نتحدث عنها مرتبط بالغريزة، فالتشدد والتنطع الديني فيه انفعال وغريزية وليس فيه عقلانية، كذلك الذهاب إلى الترف المغالَى فيه ليس فيه عقلانية، وهنا أؤكد أن ضعف دور التعليم والصناعات الثقافة والفنية الراقية ونشرها بين الشباب والرقي بمستوى الذائقة الجمالية، كل ذلك يلعب دورا سلبيا”.

ويؤكد زايد أن “التعليم والثقافة متغيران هامان جدا في تجذير وتعميق الاستقطاب ما بين السعي نحن الحداثة الشكلية والسعي نحو التقليدية والذهاب إلى الدين بطريقة مغال فيها على مستوى التفسير، وكذلك المغالاة في الخرافة والغيبية. إن هذا التناقض جزء من تركيبة وبنية الحداثة في المجتمعات العربية، كونها حداثة قشرية ‘برانية‘ لم تبن على جذر حداثي داخلي بقدر ما بنيت على استعارات شكلية لنماذج وأفكار وأشكال وأساليب سلوكية مختلفة من الخارج، تأتي بها نخب السياسية والاجتماعية المختلفة وتدخلها في المجتمع لتتراكم إلى جوار بعضها البعض لتخلق هذه الثقافة الثالثة التي لا هي حديثة ولا تقليدية وتشي بكثير من التناقضات وكثير التداخلات المجتمعية، والتناقض الذي أشرت إليه في سؤالك هو واحد من التناقضات الكثيرة في بنية الثقافة الحديثة المصرية”.

وحول صب أغلب اللعنات على المرأة خاصة لدى ذهنية المكفرين والذهنية الدينية عامة في مجتمعاتنا وهل الدين وحده هو من رسخ ذلك أم أن هناك سلطات أخرى غير الدين، يرى زايد أن “هذه النزعة إلى التطرف والغلو نستطيع فهمها بشكل أعمق في المجتمعات العربية كون هذه المجتمعات تركت وشأنها، وأتحدث هنا عن المجتمع المصري بشكل خاص، ترك المجتمع المصري لفترة طويلة من الزمن وشأنه، حيث رفعت الدولة يدها من التعليم والصحة وتقديم الخدمات الجيدة، فأُخِذ المجتمع من جانب الجماعات المتطرفة والسلفية؛ ومن ثم بدأ ‘ينسلخ‘ من أسفل، ويميل إلى الثقافة السلفية الغليظة الخاصة بفهم الدين فهما متشددا، وجزء من هذا الفهم هو النظرة المتدنية للمرأة”.

ويضيف “هنا أدعي أو أفترض أن المجتمع المصري بدءا من منتصف السبعينات ومع بدايات سياسة الانفتاح الاقتصادي ومنح الإخوان المسلمين الفرصة للدخول إلى سدة العمل السياسي، وأيضا فتح الطريق أمام ‘المتسلفين‘ للعمل داخل المجتمع المدني، كل ذلك جعل المجتمع يُسْرق من جانب هذه الجماعات فيما الدولة بعيدة تماما، عملت هذه الجماعات في المجتمعات المحلية؛ في الزوايا والمساجد والجوامع، وذلك جنبا إلى جنب مع الإعلام الذي امتلأ بطاقات دعوية لوجوه جديدة لم تكن معروفة من قبل، لها طلة جسدية مميزة باللحى والملابس البيضاء، كثر عدد هؤلاء الدعاة الجدد والقدامى وبدأوا حركة إعلامية ضغطت على العقل والوجدان الجمعيين بالإلحاح والتكرار، من خلال تقديم التفاسير والفتاوى، والبعض من هذه الفتاوى تقدم المرأة على أنها ليست متساوية مع الرجل ولكنها متخلفة عنه ليتم وضعها في ركن بعيد عن الحياة العامة”.

ويضيف “هكذا أصبح المجتمع بين بعدين، الأول أنه تتم السيطرة عليه من أسفل عبر الجماعات السلفية، والثاني تتم السيطرة عليه من أعلى عبر الدعاة السلفيين الجدد والقدامى ومن بينهم أسماء متشددة جدا تؤكد دوما على أن الماضي هو الأفضل، وأن بقاء المرأة في بيتها ورعايتها لأسرتها خير لها”.

ويقر بأن هذين البعدين السلفي القادم من قاع المجتمع والسلفي القادم من وسائل الإعلام، خلقا إطارا فكريا وثقافيا عاما في المجتمع وضع حقوق المرأة موضع تساؤل: تتعلم تعليما عاليا مثلها مثل الرجل أم لا؟ تخرج للعمل أم لا؟ يكون لها قانون للأحوال الشخصية أم لا؟ وقد امتد الأمر من مستوى الخطاب إلى مستوى الفعل حيث تؤكد الدراسات أنه داخل الأسرة نفسها بدأت تظهر أشكال من التمييز بين المرأة والرجل في الطعام والشراب والملبس والتعليم والصحة وغيره، فبدلا من أن يتطور المجتمع نحو مجتمع حدثي يقوم على مبدأ المواطنة ذهب إلى مصدات وانكسارات ماضوية حالت دون حضور فكرة المساواة، وإن حضرت فليست مطروحة كقضية مواطنة وإنما كقضية للنقاش. ومن هنا نثمن كثيرا ما يبذله القادة العرب منهم الرئيس عبدالفتاح السيسي وحكام دولة الإمارات، حيث أعطوا فرصة كبيرة للمرأة للتقدم والعمل في المجال العام وتولي المناصب القيادية، هذه الجهود تكسر التيار السلفي وتقف ضده.

السلطات الثلاث

يشير زايد إلى أنه لا بد من الإقرار بأن مجتمعاتنا لا تشهد معدلات من العنف بالمعدلات التي توجد في المجتمعات الأخرى، فالمجتمع المصري وغيره من المجتمعات العربية لا يشهد معدلات من العنف الأسري كما هو في المجتمعات الأخرى مثل المجتمع الأميركي الذي ينتشر فيه العنف والعنف الأسري خاصة انتشارا كبيرا جدا، وضرب الزوجات من الموضوعات الأساسية التي تطرح في مجال الجريمة والعنف، وهناك إحصاءات واضحة جدا على زيادة معدلات العنف في مختلف مجتمعات العالم.

ويمكن، في رأيه، أن تكون معدلات العنف في المجتمع المصري قليلة مقارنة بهذه المعدلات العالمية. لذا يجب ألا تقودنا ظاهرة هنا أو هناك من الشذوذ وممارسة العنف إلى التعميم، ولكن دعنا نسلم أنها موجودة على أي حال، وأنها تتنامى ـ كما أشرت بسؤالك ـ وهذا يدفعنا إلى تقديم تفسير لها خاصة أنها ارتبطت باستخدام العنف فيه قدر من الشذوذ والمغالاة والخروج عن المألوف في ممارسة العنف.

ويرى أنه من الطبيعي أن ينتشر العنف في طبقات اجتماعية معينة، فعندما تكون الأسرة تعاني من ضغوط حياتية وقدر من الحرمان والزحام نتيجة إنجابها عددا كبيرا جدا من الأطفال والعيش في مساحات ضيقة، والدخل غير كاف، والحياة مشحونة بالتوتر بين الزوجين، واستغلال الزوج لزوجته بشكل مفرط باعتماده على عملها في حين ـ مثلا ـ أنه لا يعمل، أو انحراف الزوج بتعاطي المخدرات والسهر خارج المنزل وعدم العناية بالأسرة، وممارسة بعض الأنشطة المنحرفة غير الطبيعية أو مصاحبة أصدقاء السوء، كل ذلك يفاقم أشكالا من الضغوط على الأسرة تولد العنف داخلها.

العنف في اعتقاده لا يظهر هكذا بحكم التكوين البيولوجي للبشر، كونهم يحملون في داخلهم ثقافة تجعلهم يحترمون ويتفاعلون ويحتاجون بعضهم البعض. وهذا هو النمط المثالي للمجتمع أن يقوم على التعاون وعلى التبادلية، ولكن عندما يظهر العنف تنكسر هذه التبادلية وينكسر هذا التعاون وتتحول الأسرة إلى أسرة متوترة تشهد أشكالا من العنف، والسبب في ذلك يرجع إلى الدوافع التي أشرنا إليها، وهذا يحدث في مستويات طبقية مختلفة، وتختلف الدوافع من طبقة إلى أخرى.

ويلاحظ زايد أن “ظاهرة الشذوذ في ممارسة العنف ظاهرة معروفة في كل المجتمعات، فالعنف يتدرج من الأشكال البسيطة إلى الأشكال العنيفة جدا والتي منها القتل والتنكيل بالجثة، بالفعل بدأت تظهر لدينا أشكال شاذة من ممارسة العنف كالتنكيل بالجثة أو القتل بطريقة فيها قدر من الغلظة والجفوة أو قتل الزوجة والأولاد والبنات، وأظن أن ظاهرة العنف التي تحمل قدرا من الشذوذ ينبغي الوقوف أمامها كونها تنبئ عن تنامي الغريزة في مقابل العقل وثقافة الاحترام، فهنا كما لو كان الفاعل مجردا تماما من العقل والثقافة والأطر الضابطة للسلوك ومن ثم يشبه الحيوان، وتصبح طاقة الانتقام لديه عالية جدا”.

ويتابع “الإنسان في تكوينه هو غريزة وعقل، ثقافة ودافعية غريزية، فيه الحيوانية وفيه الأطر الثقافية التي تضبط هذه الحيوانية وتجعلها مستأنسة ومدفونة داخله لا تظهر إلا في أوقات معينة. عندما يغيب العقل وتغيب هذه الأطر الثقافية يصبح الإنسان بلا معايير حاكمة ولا سلوك ضابط ولا تعليم حاكم ومن ثم يتصرف تصرفات أشبه بالتصرفات الحيوانية وكثيرا ما تكون هناك جرأة في هذه التصرفات تصل إلى الإسراف والشذوذ في استخدام العنف، وعندما تحدث في الشارع تكون الجرأة على المجتمع ككل أفرادا ودولة، وهنا يجب على المجتمع أن يعمل تشريعات خاصة قوية وفاعلة وغليظة في مواجهتها، لأني أظن أنه ليس فيها تحدّ فقط للأسرة ولا للجيرة ولا للمجتمع المحلي ولكنّ فيها تحديا للمجتمع ككل”.

وفي ما يتعلق بالسلطات التي تحكم مجتمعاتنا الأبوية أم الدينية والاجتماعية، يقول زايد “نحن نفرق في علم الاجتماع بين ثلاثة أشكال من أشكال السلطة، الأولى السلطة القانونية، السلطة الشرعية، سلطة الدولة التي ينظمها القانون، والثانية السلطة التقليدية التي ترتبط بالعائلة والتقاليد وكل أشكال المنع والتحريم، منها سلطة الثقافة التقليدية التي تنتشر في المجتمع وفيها يلعب الكبار دورا جنبا إلى جنب مع العائلة والتقاليد، والسلطة الثالثة هي السلطة الكاريزمية التي ترتبط بالقدرة الكاريزمية التي توجد عند بعض الأشخاص وتجعلهم يخضعون الآخرين ويؤثرون فيهم تأثيرا نفسيا واجتماعيا بحتا دون أي شرعية قانونية أو شرعية تقليدية”.

ويرى أن هذه الأشكال من السلطات هي التي تحكم المجتمع، في فترات تاريخية معينة نجد السلطة الكاريزمية هي المنتشرة، وفي أزمنة قديمة كانت السلطة التقليدية هي الحاكمة، وفي المجتمع الحديث يفترض أن تكون السلطة الشرعية القانونية هي التي تنتشر وأن تختفي أطر السلطة التقليدية اختفاء كاملا، ولكنْ في مجتمعاتنا ثمة مزيج بين السلطات الحديثة المرتبطة بتطبيق القانون والسلطات التقليدية لأنه كما أشرت سابقا الحداثة العربية في مجتمع مثل المجتمع المصري لم تقض تماما على سلطات الدين والعائلة والثقافة التقليدية بأشكالها المختلفة، فظلت هذه السلطات تعمل عملها في المجتمعات المحلية في الريف والحضر، وتؤثر تأثيرا كبيرا على سلوك الناس، وهذه معضلة أساسية تعاني منها هذه المجتمعات.

ويتساءل إلى أي سلطة يخضع الشخص القبيلة أم الدولة؟ إنها معضلة شائكة جدا لأنها تتصل بالمواطنة، كيف أعرّف نفسي؟ هل أعرّف نفسي كمواطن أم كشخص ينتمي إلى إقليم معين أو عائلة معينة أو نظام قرابي معين أوشلة أو زمرة أو أي شكل من أشكال التجمعات تحكمها الأطر التقليدية؟

مضيفا “صحيح أنه في المجتمع الحديث تتعدد الانتماءات: الانتماء إلى مجتمع مدني أو تجمعات تنظيمية نقابية أو مجتمع محلي أو قبيلة أو أسرة معينة، لكن يبقى الانتماء الكبير المتمثل في الانتماء المواطني، ومن ثم يجب أن نركز على أن الانتماء إلى المواطنة هو الانتماء الأساسي، ولا نعرف أنفسنا بتعريفات أخرى مرتبطة لا بالقبيلة ولا بالدين ولا بالعرق ولا بالإقليم، هذه كلها كهوف، والمجتمع الحديث يدعونا إلى الخروج من دائرة الكهوف إلى دائرة المواطنة باعتبارها الدائرة الأرحب والأوسع التي تشملنا جميعا. إن هذه الازدواجية في الانتماء تشكل معضلة من معضلات المجتمعات العربية، وهي معضلة تقلق بعض الأنظمة العربية كونه لا توجد رابطة قوية للمواطنة، هذه الرابطة تظهر في بعض الأزمات لكن في بعض الأوقات يفضل الفرد القبيلة، العائلة، الدين، ومن ثم يدخل الحياة من باب الكهوف وليس من الباب الأرحب والأوسع للوطن والوطنية والمواطنة”.

وينبه زايد إلى أنه لا يجب أن نعتبر العلم سلطة ولا الثقافة سلطة ويقول “العلم له كيان مستقل وكذلك الثقافة، وكلاهما يدعي الاستقلالية، وكلاهما ليس تابعا لأحد ولا لسلطة معينة ولا حتى تابعا للأفراد الذين ينتجونه بعد أن ينتج سواء كان ثقافة أو علما، ولكنّ كليهما قريب من السلطة بالمعنى المجازي، باعتبارهما محركين للحياة، الثقافة تحرك وتوجه والعلم أيضا يحرك ويوجه إلى آفاق جديدة، العلم هو من خلق التكنولوجيا والتطورات التي دفعت الإنسانية إلى أن تدخل إلى عصور الثورات المختلفة بدءا من الثورة الصناعية وانتهاء بثورة الذكاء الاصطناعي، واستخدام البحث العلمي والتكنولوجيا المتقدمة وتطويرها محركان أساسيان للتقدم. والثقافة التنويرية التي ظهرت في القرون السادس والسابع والثامن عشر مع كتابات فلاسفة الأنوار في أوروبا هي التي حركت العالم نحو الحرية والمساواة والحياة المدنية والديمقراطية والنظم السياسية الخاصة بالدول الحديثة”.

ويتساءل لماذا لم تشع الثقافة ولا العلم الكثير من التقدم على مجتمعاتنا؟ ويجيب “هذه قضية لها أبعادها السياسية والاجتماعية والتاريخية المرتبطة بالاستعمار وطبيعة المشكلات والظروف السياقية التي تحدثنا عنها سابقا مثل سلطة القبيلة والثقافة القديمة على الثقافة الحديثة، فدائما الثقافة القديمة في الكثير من جوانبها عندما تركن إلى القبيلة والدين وتفسيراته المحافظة وغير التقدمية، تحاصر العقل والتنوير والبريق وأي شكل من أشكال التقدم، لذا علينا أن نفهم السياق جيدا لكي نفهم لماذا لم يحدث العلم ولا الثقافة تأثيرا كبيرا.. ومع كل ذلك علينا أن نثمن الجهود القائمة، فهناك دول عربية أحدثت تقدما في المجال العلمي والثقافي والفني، ومحاولات كثيرة متناثرة هنا وهناك في الوطن العربي من أجل تحقيق التقدم نأمل أن تتكاتف وتتكاثر في المستقبل”.

الثقافة وتجديد الخطاب

يرى زايد أن العلاقة بين المثقف والسلطة، وبين العلم والسلطة سواء كانت علاقة تعاون أم توتر أم صراع، تختلف من مجتمع إلى آخر، ووفقا للدور الذي يوليه النظام السياسي والسلطة السياسية القائمة في المجتمع للعلم والثقافة، ويعتقد أن الثقافة والمجتمع المدني في تاريخنا لعبا دورا كبيرا، ولا نستطيع أن نجزم بشكل عام أن هناك تراجعا للمجتمع المدني ودور المثقفين، مستشهدا بالدور الذي لعبه الفن في حياتنا الثقافية المصرية.

يقول “إن الفضل يرجع لمصر في إدخال السينما والمسرح والموسيقى الحديثة والجامعات إلى الثقافة العربية، وقد حذت البلدان العربية الأخرى حذو مصر في هذا الصدد، وثمة إسهامات كبيرة قدمتها وتقدمها الثقافة والمثقفون، هذا فضلا العلماء الذي أنجبتهم مصر، صحيح أن بعض هؤلاء العلماء وجدوا في مجتمعهم بيئة صادة وضاغطة مثل أحمد زويل ومجدي يعقوب وغيرهم من العلماء الأفذاذ ووجدوا البيئة المثالية في مجتمعات أخرى، ولكنهم عادوا ليقدموا لبلدانهم مشروعات مهمة، فأسس زويل مدينته ويعقوب أسس مستشفاه”.

يتابع “هناك إسهامات حقيقية لكن مع تقديرنا لها إلا أننا نستطيع القول إن مجتمعاتنا مختلفة عن المجتمعات الغربية بعض الشيء في الدور الذي توليه للثقافة والعلم. هناك فرق شاسع في تاريخ الحداثة هنا وهناك والشكل الذي اتخذته الحداثة هنا وهناك، حتى لتبدو الثقافة والمجتمع المدني ومؤسساته أحيانا في مجتمعاتنا لا تلعب الدور المنوط بها على الوجه الأكمل، ومن هنا نحتاج منها إلى المزيد من العمل والدعم ومن النظم العربية أن تفسح المجال للثقافة والمثقفين والعلم والعلماء. واعتقد جوائز مثل جائزة الشيخ زايد وجائزة العويس في الإمارات وجائزة النيل والجائزة التقديرية في مصر كلها تنم عن وجود اهتمام من الدولة، نحن بحاجة للمزيد من الجوائز وتشجيع المثقفين والعلماء، وانتهز هنا الفرصة لأقدم الشكر لمؤسسة العويس التي تنتهج نهجا عادلا في منح جوائزها وتعتبر من أهم المؤسسات الثقافية العربية التي تدعم المثقفين وتفتح أمامهم آفاقا للأمل للمزيد من العطاء والحضور الثقافي الحقيقي”.

أما في ما يخص قضية تجديد الخطاب الديني ومواكبته للتغيرات والتطورات المجتمعية، فيرى زايد أن هناك مبادرات ورؤى واتجاهات سياسية كثيرة تدعو إلى تجديد الخطاب الديني، لكن التجديد لا يتم بشكل سهل، وأعتقد أنه عملية صعبة تحمل الكثير من المشكلات والتحديات، فالأمر الذي نريد تجديده يبدو أنه التصق بالبنى الاجتماعية والثقافية العميقة لفترة طويلة.

ويتابع “هذه البنى تركت لشأنها لفترة تزيد عن أربعين عاما فتشكلت وتبلورت في ضوء متغيرين هامين جدا الأول خروج الدولة من دائرة التأثير والدعوى إلى الليبرالية الاقتصادية والانسحاب من الكثير من الخدمات خاصة في مجالي التعليم والصحة، مما أفضى إلى ترك المجتمع وشأنه، والمتغير الثاني يرتبط بالأول فعندما ترك المجتمع وشأنه سيطرت التيارات والجماعات السلفية عليه، وحصل التدين بمعناه المتخلف، المتحجر، الرافض لكل ما هو جديد أو حداثي، واتخاذ موقفا صلبا تجاه كل القضايا التحررية مثل قضية تحرير المرأة وقضية المدنية وقضية الحداثة، تخلف المجتمع ورجع إلى الوراء وتمسك بكل ما هو ماضوي في مقابل رفض كل ما هو حديث ومدني، حتى وصل في تخلفه وتطرفه إلى أن دفع حركات وجماعات إرهابية مثل جماعة الإخوان المسلمين وأخرى أكثر تطرفا وإرهابا مثل الجماعات الجهادية للعودة إلى المجال العام، وكلها ترسل رسائل ثقافية قاسية مثل الاعتداء على نجيب محفوظ واغتيال فرج فودة ومحاكمة نصر حامد أبوزيد وغير ذلك، هي رسائل أرسلت إلى المجتمع وإلى الضمير بقصد التحذير من أي تحرك مدني أو حداثي”.

ويؤكد “البنى أصبحت صلبة جدا، ومن ثم أصبحت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني في مواجهة بنى متصلبة ومتكلسة، ومن ثم فإن إصلاح الأمر يحتاج إلى وقت طويل جدا وأطروحات مختلفة، نحن بحاجة إلى شغل داخل هذه البنى أكثر مما نحتاج إلى فكرة الوعظ، فالوعظ وتغيير منابره لن يغير أي شيء خاصة أن دوائر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أصبحت أكثر تأثيرا من الوسائل التقليدية، إننا نحتاج إلى تغيير هذه البنى من الداخل بتطوير المؤسسة التعليمية والنظم التعليمية والتربوية المختلفة بحيث تركز على تكوين وتشكيل عقل مواطني صالح وتدعو إلى نبذ الخطابات المتخلفة؛ الكراهية والعنف والتطرف”.

ويضيف “أيضا نحتاج إلى ثورات ثقافية تغرس قيم الفنون الراقية في العقل المجتمعي. نحتاج أن يؤمن الناس بالمدنية والعقل المدني والحداثي. نحن لا نعترض على التقاليد والعادات إذا كانت في صالح العقلية المدنية، لكن إذا كانت ضدها فنحن نرفضها، كما نرفض التفسيرات المضللة للدين، ونطالب بإعادة قراءة التاريخ الإسلامي والنصوص الإسلامية بشكل مختلف ولن يتم ذلك إلا بإفساح المجال لقراءات مختلفة، ألا نقف ضد قراءة مختلفة ولا نحاربها بل نسمح لها بالنمو والترعرع داخل المجال العام، والتحرك نحو حداثة حقيقية ومدنية حقيقية ومستقبل أفضل يحترم التعددية الدينية وحرية الآخرين ويرفض الوصاية على اختلاف أشكالها، فهذا ما يؤدي إلى تغيير البنى المتكلسة والضعيفة والهشة التي تدعو إلى الماضوية”.

عالم الاجتماع المصري أحمد زايد: الحداثة العربية شكلية يقودها التناقض – بقلم محمد الحمامصي

صحيفة العرب
www.alowaisbooks.com

العويس الثقافية