طلال معلا: الفكر يتخلص بصعوبة من الحنين إلى الكائن – بقلم نضال قوشحة

الباحث السوري يؤكد أن الفنان العربي بات يحس بالمخاوف التي تقصيه عن فعل الخلق الفني.

يتابع الناقد والباحث الدكتور طلال معلا رحلته الفلسفية العميقة في أتون علم الجمال وتنظيراته الفكرية بحثا عن مكامن وفضاءات جديدة في تكوين العلاقة الجدلية بين الفنان ومحيطه، ومن ثم بين الفنان والمتلقي في منظور الحوامل الاجتماعية والفنية والنفسية التي تحوط عملية الإبداع من جهة والتلقي من جهة ثانية.

ويطرح معلا الكثير من الفرضيات في مؤلفه الجديد “لغز الفن – قراءة اختبارية في التشكيل العربي”، الذي يصدر هذه الأيام عن دار الجديدة. وفيه يحقق توغلا جديدا في مسارات هذه العوالم الجمالية.

لا يهدأ منظرو علم الجمال في تقديم العديد من الدراسات التي لا تزال تحاول تفهم عوالمه الواسعة والعميقة ومدى تأثيره وتأثّره بالمحيط الجمالي والجغرافي. وتحاول هذه الدراسات أن تدخل منظورا جديدا لمفاهيم علم الجمال في عصر يحمل كل جديد في كل ثانية. في واحدة من هذه المحاولات المستجدة كتاب طلال معلا الجديد “لغز الفن – قراءة اختبارية في التشكيل العربي”.

المفاهيم الجمالية

في حديثه لـ”العرب” حول كتابه الجديد الذي يثير إلى حد بعيد فكرة الديالكتيك أو الجدل بين القديم والمعاصرة، وحول أهمية طرح هذا الموضوع الآن في عصر يمور بالتغيرات يقول الدكتور طلال معلا “يجمع أغلب الباحثين في مجالات نقد الفنون التشكيلية العربية على أن مفهوم الحداثة على ارتباط شديد بفكرة اللوحة الغربية، وأن الفنون بمجملها بقيت تدور في محاولات الانفكاك من هذا الارتباط، بدءاً من الخروج على مفهوم اللوحة الاستشراقية نزوعاً إلى لوحة وهوية عربية”.

ويضيف “هذا التوجه أوقع الفنون العربية في مطب هو أبعد من التبعية، بالتساؤل عن موقف الفنان من المعارف الإنسانية في العالم، وعن دور هذا الفنان في المضي قدماً في قراءة المتغيرات الإبداعية، وهو ما يؤكد أن الأمور كانت وما زالت على ارتباط بالثقافة العربية بعمومها وصلتها بمختلف فنوننا وكذلك على ارتباط بالذات التفاعلية في هذه الثقافة بكل ما تعانيه من إشكاليات، وهو ما يستدعي تفكيك هذه المعضلة بكل ما تحمله من أثقال سلبية كانت قد كرستها التبعية في ملامح الفن العربي الطامح لاستيعاب مفاهيم ما بعد الحداثة حيث تختلف المعطيات كلياً كما تختلف الأسئلة وتتنوع بتنوع رؤى المبدعين التي تراوح بين استنساخ تجارب الحداثة السابقة في الغرب وبين الخروج عليها عبر ذات الأدوات المستخدمة في الغرب أو في فنون الآخر”.

الحداثة وتجاوزها إلى ما بعدها في كل ما هو معاصر في الفنون التشكيلية والبصرية تثير أسئلة شائكة

ويتابع معلا “إنه موضوع سيبقى مثار جدل بسبب تداخل السياقات التي يتم عبرها إنتاج المعارف الجمالية المتصلة بالذات خارج اهتمامات الآخر. ما زالت قضية الحداثة وتجاوزها إلى ما بعدها في كل ما هو معاصر في الفنون التشكيلية والبصرية قضية تثير المزيد من الأسئلة المعرفية الشائكة ذات الصلة بالعلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وتاريخ الفن وباقي المجالات التأملية التي يحاول النقد ربطها بالهوية دون التخلي عن نظرة الاستنارة بالفنون الإنسانية والفكر المعاصر”.

وعن أهمية طرح المفاهيم الجمالية وتقديم الدراسات الفلسفية التي تنظر لها لطرح مفاهيم تناقض منطق الحروب والأزمات وما يمثله ذلك من تجذر لحالة الإبداع الفني عند الناس يقول معلا “ما زال الفن كمجال للإبصار والتمثل الرمزي يتشارك مع المفاهيم الجديدة، بتمثلها أو تدميرها، بإثباتها في الوجود أو نفيها منه، أو من تاريخ التصور القائم على المناظير المتعددة لجوهر النموذج الذي يمتلك حيوية اللغة ونهايتها في آن معا”.

وفي رأيه ليس معنى ذلك أن العلم بنجاحاته المبهرة يحاول إغلاق الأبواب على المبدع المشارك في إنجاز العمل الفني، أو المتلقي الذي يقدم اكتشافاته من التعامل المباشر مع منجزاته، وتحديد استجاباته بإضافة أو حذف ما شاء خارج الضوابط التقليدية لمنهجية التلقي، ودون الاستناد إلى الماضي، أو اعتبار نفسه متداخلا مع الآخرين، أو مع إستراتيجيات التفسير التي تحيط بها الأحكام الأخلاقية، وتجعل من المعنى نقطة بيكارية مركزية يتمحور حولها العمل المفترض الجديد.

ويضيف “بالانتماء إلى العصر والمفاهيم الجديدة لا ينتمي العمل الفني إلى مصادره المعتادة فيما أنجزه الإنسان عبر تاريخ الفن، بل إلى الغاية التي لا صلة لها بالمرجعيات. وعلى هذا الأساس فإن المعنى الذي يتحدث عنه الفنان لا يكون ثابتا، بل يكون متبدلا لانقطاع صلته بمن أبدعه إثر إنجازه النهائي مباشرة. ويكون على الفنان أن يعبر باستمرار عن هذا الانتماء بتحرير أعماله من كل ما يربطها بما سبقها، كي يحقق إمكانية تعبيرها عن الحقيقة التي يقصدها، بعيدا عن الزخرف والحواشي التي خنقت الغاية من العمل الفني، وجعلته تائها في المراوغات النسقية لبراءة الإبداع”.

عناوين صادمة

يقدم طلال معلا في أحد فصول كتابه عنوانا صادما “هندسة الوهم”، تسأله “العرب” عن مضمون هذا المفهوم الشاعري والصادم وعن تقبل أحدهم أن تكون هنالك هندسة للوهم فيقول “إننا نتأمل الفن باستغراب بعد أن تداخل الخيال بالعقل والواقع بالافتراض والفيزيولوجي بالرمزي والزمان الأسطوري بالزمان الأصلي والمتناهي باللامتناهي والداخل بالخارج والحضور بالغياب. هكذا يرشدنا العصر الضال كي نتحول، وكي نصوغ تحولاتنا بمقتضى الروح الجديدة التي تحتل صورنا وصورتنا بعد أن صاغها الضوء والنور”.

ويتابع “اليوم يعيد النور الإلكتروني المكانة للتفوق، فالعالم هو المبدع، والفن الذي كان يغير العالم، بات مكفهرا وهو يفقد قدسيته، ويفقد الانتماء إليه، والتمذهب حوله. إن الإنسان ينفصل عن نفسه مرة أخرى، وبعد أن كان يخشى صورته في الماء، ويطمئن إلى صورته في المرآة، انقلبت العين الجسدية إلى عين خلوية صناعية توهم بالإنسان بدلا من رؤيته، وباتت بذلك أسطورة نرسيس أسيرة الثورة الرقمية، إن لم تكن قد دفنت نهائيا ً في أسرار الديجيتال بعد أن توحد المرء بشاشته وفقد مرجعيات الإبصار لدرجة تقارب احتجاج بارت إذ يقول: الصورة هي كل مساحة يتم إقصاء جسدي عنها”.

عنوان آخر من فصول كتابه يذهب إلى طرح تساؤل عن إمكانية أن يتخلى الفن أو الفنان، أحدهما، عن الآخر؟ وهو ما يخالف نظرية جمالية تحدث فيها منظرون في علم الجمال تؤكد ضرورة الفن كما قال أرنست فيشر سابقا، يبين طلال معلا أن “الفنان العربي بات يحس بالمخاوف التي تقصيه عن فعل الخلق الفني باعتبار الإلهام فعلا سابقا للرؤية التقنية السائدة اليوم في الفنون، فنون الأنظمة الكمبيوترية أو الإشعاعية، الأمر الذي يقصي الخبرة المعرفية، الفكرية أو المهنية وإن كان في الغالب ما زال ينتج المحامل التقليدية التي لا تفصله نهائيا عن مواقع الخوف التي ذكرناها”.

ويتابع “استمرار التجمعات التنشيطية لذهنية الفنان كالبيناليات المحدودة في بعض البلدان دون غيرها، المنفتحة على تجارب عربية وشرقية طالتها آليات التغيير في الربع الأخير من القرن الآفل. هذه الفعاليات تلعب اليوم دورا نموذجيا في تسهيل عمليات انتقال الولاء الجمالي من نموذج إلى آخر باعتبار أن الفكر في آخر القرن يتخلص ببطء وبصعوبة من الحنين إلى الكائن، حنين لم يعد يسنده الرفض الصائب لحاضر لا يحتمل، إذ ينبغي التفكير في مجتمع الحاضر ونقده وتحويله إلى مجتمع أكثر مرونة وتنوعا”.

ويؤكد معلا أنه في هذا المضمار تتعدد أسئلة المبدع العربي باعتباره معنيا بتوليد رموز ما يعيشه ويمكن ملاحظة الأجيال الجديدة التي تتخلى عن متحفها المتراكم لتقتحم مجهولا جديدا دون أن تقف عند حدود الصراعات الدائرة، وهذا الجيل معني أيضا بتوليد الرموز بينما يموت هذا المتحف في الإنسان في هذا العصر وعبر أحداثه من خلال النقد والتحليل أحيانا ومن خلال توضيح فهم حركة صعود الفنون خارج أثوابها التقليدية المعهودة.