صحافة عن بعد – بقلم هيثم الزبيدي

هيثم الزبيدي
الصحافة مهمة جماعية، تحتاج إلى اللقاء وجها لوجه والعصف الذهني والنقاش والجدل.

هل نعود إلى العمل من المكاتب؟ هل سنعود إلى المكاتب؟ هل المكاتب ترف الآن في عالم متقشف؟

يوميا أسمع هذه الأسئلة أو أقرأ عنها. هي أسئلة “وجودية” إذا صح التعبير. المكاتب هي “الورش” الفكرية إذا كانت الورش التصنيعية هي القياس. لا شك أن العالم لوقت قريب لم يكن مزدحما بالمكاتب. لا عالم الثورة الزراعية ولا عالم الثورة الصناعية. الثورة الإدارية وتضخم الحكومات هما ما ملأ المدن بالمكاتب. ثم تزايد الإيقاع بالثورات التكنولوجية والمالية، لتصبح المكاتب علامة المدن الفارقة.

عام 2000 أطلقت مشروعا إعلاميا على الإنترنت. أول ما فكرت فيه هو مكتب. استأجرت مكتبا صغيرا وبدأت. كنت محاطا بشركات بمكاتب صغيرة. من بياع أشرطة وأسطوانات الفيديو إلى وكيلة المربيات القادمات من أوروبا الشرقية. كانت هناك شركة تقوم بدور “مكتب المكاتب”. أي أنّ من يرغب في من يرد على هاتفه ويوحي بأن لديه مكتبا، يتعاقد مع هذه الشركة. يأتي الاتصال فيقوم الكمبيوتر باستحضار معلومات الشركة أمام الموظفة المعنية وترد وكأنها مكتب حقيقي، في حين هي مكتب افتراضي.

بعد سنوات قليلة لاحظت أن بعض المكاتب بدأت بالشغور. يوما بعد آخر قل العدد. انتشار خطوط الإنترنت السريعة وعدم الرغبة في زيارة المكاتب للقاء الإداري وتغير النظرة إلى العمل عن بعد عززت هذا الإحساس. بعد كم سنة انتهينا ببناية مكاتب فاضية تماما. كان هذا على أطراف المدينة، لكن العدوى انتشرت إلى قلب العاصمة.

العمل عن بعد يمارس في مؤسستنا منذ سنوات طويلة. هذه هي الطريقة الوحيدة ليكون التحرير والإنتاج والعمل الإداري متوافقا وبكلفة معقولة. لكن بيئة الصحافة تحتاج إلى “الكتلة البشرية الحرجة”: أن يلتقي الزملاء ويتحدثوا ويتحدّوا بعضهم البعض بالأفكار. يمكن تقليص الكثير من النشاطات العملية بآليات العمل عن بعد. لكن لا الهاتف ولا الحديث عبر سكايب ولا التواصل عبر تطبيق سلاك تغني. الصحافة -بتقديري- عملية صناعية مثلها مثل أيّ عملية تصنيع تجتمع فيها اليد العاملة في مكان واحد لأداء المهمة.

وباء كورونا اختبرنا في هذا الشأن. استمر العمل في مؤسستنا ولكن عن بعد (وبعلمي أغلب المؤسسات الصحافية الأخرى حذت حذونا). نجحنا بالاختبار العملي واستمر صدور الصحيفة وتحديث الموقع. اجتماع التحرير يستمر في موعده ولكن عبر سكايب. التراشق والملاحظات صارا مكتوبين. التعديلات تتم عبر الاطّلاع على الصفحات بصيغة بي.دي.أف أكروبات.

بقيت روح الجماعة والعمل. هل المطلوب السهولة والتوفير؟ بالتأكيد هما ضروريان. ولكن الصحافة مهمة جماعية، تحتاج إلى اللقاء وجها لوجه والعصف الذهني والنقاش والجدل. لا أرى أن هذا يمكن أن يتم عن بعد إلا اضطرارا. سننتظر أن يذهب الاضطرار ويعود الخيار.

صحيفة العرب