رسام الميكانيكا – بقلم إنعام كجه جي

إنعام_كجه_كي

تأجل هذا الموعد مرتين، بسبب الملعونة «كورونا»، وها هو يتحقق بعد انتظار. معرض ضخم لفردينان ليجيه يقام في متحف سولاج في رودز. أين رودز هذه؟ تبحث عنها في الخريطة فإذا هي بقعة لطيفة تتشمس في جنوب فرنسا، لا يزيد عدد سكانها على ربع المليون. كيف حدث أن يستضيف رسام في متحفه رساماً من طينة مغايرة؟

فارق ليجيه دنيانا منتصف القرن الماضي. أما بيير سولاج فما زال هنا بعد أن تجاوز المائة بسنتين. إنه الرسام الذي وصفه الرئيس السابق هولاند بأنه أعظم فنان حي في العالم. يرسم اللون الأسود بكل تدرجاته ولا شيء غير السواد.

لم يكن من اليسير تجميع 86 لوحة لفردينان ليجيه في مكان واحد. ولد أواخر القرن التاسع عشر وتأثر بالتكعيبيين ثم هجرهم ليصبح من رواد ما صار يسمى الفن الملتزم.

أي تسجيل أثر الثورة الصناعية على المجتمع ويوميات الناس العاديين. معرض مغرٍ لا سيما أن الصيف هو موسم الهجرة إلى الجنوب وسواحل المتوسط.

ويتوقع القائمون عليه أن يقصده عشرات الآلاف من الزوار والسياح والمصطافين. الفن ينعش السياحة.
تأثر ليجيه بالرسام بول سيزان. واصل أسلوبه التكعيبي مع الاهتمام برسم الآلات وما فرضته المكننة من واقع نقل ملايين المزارعين إلى العمل في المصانع.

كان شغوفاً بالدراجة الهوائية. اختراع لطيف ووسيلة رخيصة وسهلة للتنقل. وهو قد رسمها وراكبيها في كل حالاتها وحالاتهم. وكان يحدد مفردات لوحاته بخط أسود. استخدم ألواناً واضحة وخطوطاً هندسية بسيطة فصارت أعماله أقرب إلى الملصقات. يقول عنه نقاد عصره إنه مهندس الكتل الملونة.

عنوان المعرض «الحياة وجهاً لوجه». ومن ضمن عشرات اللوحات تلفت الانتباه لوحة «الميكانيكي»، أشهر أعمال صاحبها. لوحة زيتية أنجزها عام 1918 ووصفت بأنها تصور الحياة الحقيقية المتحركة.

كانت الباذرات والحاصدات ومكائن السقي قد تسللت إلى الحقول وسحرت الناس بإمكانياتها. ولم تكن فكرة حلول الآلة محل العامل والفلاح قد انتشرت بعد.

لم يحسب أحد حساب تطور التكنولوجيا والاستغناء عن ملايين الأيدي لصالح الإنسان الآلي.
تعكس أعمال ليجيه تطور الحركات الفنية في القرن العشرين. ولوحاته مرتبة وفق ثلاثة موضوعات: عالم العمل، ثم المدينة، وأخيراً التسلية ووقت الفراغ.

وبهذا فإن الزائر ينتقل من «الميكانيكي» إلى لوحات تصور المباني والمقاهي والشوارع وكذلك أرياف فرنسا وأوقات تريض العائلات. لكن الفنان يبقى مرتبطاً بموضوعه الأثير، أي علاقة الإنسان بالآلة. وهناك من يعتبره أول من تنبأ بسيطرتها على حياة البشر وتحولهم إلى أسرى لها. جاء ذلك الاهتمام من جانبه بعد رحلة قام بها إلى نيويورك.
يروى عن فردينان ليجيه أنه خرج يتنزه ليلاً مع أصدقاء له في تلك المدينة الأميركية المزدحمة حين لاحظ أضواء النيون تشتعل وتنطفئ.

رأى الأضواء تسربل المتنزهين بحيث لا تعود الوجوه مرئية ولا الأجساد. يتحول الرجال والنساء إلى حزم من اللون الأصفر والأزرق والأحمر. انطبعت تلك الصورة في باله وحاول استعادتها على قماش اللوحات حال عودته إلى مرسمه.
لماذا يقام المعرض في متحف الرسام المعمّر سولاج؟ يقول الدليل إن دروب الاثنين تقاطعت في مرحلة من المراحل. فقد كان صاحب المتحف معجباً بأعمال ليجيه ويعتبره فناناً إنسانياً اهتم بالشغيلة. وهما قد التقيا عدة مرات في باريس واشتغلا على مشاريع مشتركة. وبهذا فإن الاستضافة هي تعبير عن ود قديم.

رسام الميكانيكا – بقلم إنعام كجه جي
جريدة الشرق الأوسط
العويس الثقافية

اصدارات العويس