من أنتِ لتكوني كاتبة؟ – بقلم علي عبيد الهاملي

علي عبيد الهاملي

في إهداء روايتها «مترو حلب» إلى أمها، التي لن تقرأ الرواية لسببين: الأول، أنها لا تقرأ، والثاني أنها رحلت قبل صدور الرواية، تقول الكاتبة السورية مها حسن: حين اتصلتُ بتلميذة التمريض النازحة في بيت أمي، رحنا نتبادل الرسائل عبر واتس آب لأطمئن على أمي بعد أن انقطعت شبكة الهاتف الأرضية. سألتني زينب: ماذا تشتغلين في باريس؟ أجبتها: أنا كاتبة. قالت لي: كفّي عن المزاح، بجد، ماذا تعملين؟ أجبتها: أنا لا أمزح، أنا كاتبة. قالت: أنت تكذبين أو تسخرين مني، من أنتِ لتكوني كاتبة؟

تلميذة التمريض التي تكتب لي عبر واتس آب، وتستخدم الوسائط الحديثة، لم تستوعب، أو تتقبل، أن تكون أنا، ابنة المرأة التي تساعدها، كاتبة. فالكتابة بالنسبة إليها مهنة أكبر من أن تكون عملاً يمارسه أناس تعرفهم. بل هي ليست مهنة، إنما شيء أُعطِي لفئة من البشر لا يمكن لها أن تلتقي بهم. زينب قرأت أسماء كُتّاب في مناهج التعليم، لكنها لا تعرف، أو لم تفكر، كيف أصبحوا هكذا. هذا أمر لا يعرفه الناس البسطاء أمثال زينب، ولا أمثالي أيضاً، من وجهة نظرها… إلا أن أمي، التي لم تذهب يوماً إلى المدرسة، ولا تعرف ماذا يوجد داخل كتبنا، لا تكف عن التباهي بي، وتعلن: ابنتي كاتبة.

ربما يبدو سؤال تلميذة التمريض النازحة في بيت أم مها ساذجاً، ولكننا عندما ندقق النظر فيه ونغوص في أعماقه نجده منطقياً، يطرح أسئلة جوهرية حول من يهبه الله ملكة الكتابة، وحول قيمة الكتابة نفسها. فزينب البسيطة تقرر أنه ليس من المتاح لأي إنسان أن يكون كاتباً، بل إنها ترفع الكتابة إلى مرتبة القداسة، إلى درجة أنها لا تتصور أن تتحدث معها كاتبة، أو أن تتحدث هي مع كاتبة. هذا الإحساس الذي تحمله تلميذة التمريض النازحة في بيت أم مها ربما لا يشعر به كثير من الذين يطرحون أنفسهم على الناس كُتاباً، أو بتعبير أكثر دقة؛ لا يشعر به أولئك الذين يفرضون أنفسهم على الناس كُتّاباً.

ليس ثمة شك في أن تلميذة التمريض النازحة في بيت أم مها لم ترد إهانة مها، ولكنها أرادت الإعلاء من شأن الكتابة، فلم تتصور أنها يمكن أن تكلم كاتبة، لكن أم مها استطاعت بطريقتها السحرية، التي لا تجيدها مها، إقناع الصبية، بكلمات بسيطة، فصدّقت زينب أن مها كاتبة، ولديها كتب منشورة… صدّقت أمَّ مها، التي لا تعرف القراءة والكتابة، ولا تدرك معنى أن يهدي أحد كتاباً لأحد… إلا أنها حين تتحدث عن مها تقول: ابنتي كاتبة.

 

«من أنتِ لتكوني كاتبة؟» ربما كان هو السؤال الذي يجب أن يوجهه كل من يتصدى لحمل أمانة الكلمة لنفسه، فليس كل ما يُعرَف يُكتَب، وليس كل ما يُكتَب يُنشَر، وليس كل ما يُنشَر يفيد، وليس كل ما يفيد يؤثر، وليس كل ما يؤثر يغيّر، وليس كل ما يغيّر يعلق بالذاكرة، فكثيراً ما كانت مهنة الكتابة بلا ذاكرة، رغم أنها وعاء الذاكرة. هذه ليست فلسفة سفسطائية من أروقة قدماء اليونانيين، ولكنها حقيقة لا يدركها إلا أولئك الذين خاضوا تجربة الكتابة الحقيقية، متجردين من غواية الكتابة لأغراض تتعارض مع أمانة الكلمة وشرف الانتماء للأقلام الصادقة.

في رواية «مترو حلب» تتشابك الخطوط بين كاتبة الرواية المقيمة في باريس، التي أهدت روايتها إلى أمها التي لم تخرج من حلب، وبين بطلتها سارة، التي قدمت إلى باريس من حلب، على غير رغبة منها، تلبية لطلب خالتها المريضة بالسرطان أمينة، لتكتشف أن أمينة هي أمها الحقيقية، وأن هدهد، التي عاشت سارة تعتقد أنها أمها قبل أن تنتقل إلى باريس، هي خالتها. هذه الخطوط المتشابكة بين بطلات الرواية التي تنتمي إلى أدب المنافي، شأنها شأن روايات مها حسن الأخيرة، رافقتها خطوط متصلة، في الكوابيس التي كانت تراها سارة، بين مترو باريس، حيث تعيش، وبين مترو حلب، حيث تهيم روحها، فتحلّ حلب مكان باريس، وتحلّ باريس مكان حلب. «هذا ليس مرض الزهايمر، فأنا لا أزال شابة على الزهايمر. اسم مرضي: خلل المنافي» تقول سارة.

في ختام إهداء روايتها «مترو حلب» إلى أمها، التي اختارت طريقةً روائيةً للرحيل عن الحياة، وكأنها أحد أبطال ماركيز، تكتب مها حسن:

«إلى أمي، معلمتي في السرد إذاً، ومعلمتي في اختيار النهايات… أكتب هذه الرواية».

ومَنْ مِنّا لم يتعلم السردَ مِنْ أمّه يا مها؟

جريدة البيان