إدفيك جريديني وأنطون سعادة: علاقة مشرقة أوصلتها الظروف إلى طريق مسدود

شوقي بزيع

الحب عنده انعكاس لقوة الحياة

أنطون سعادة
أنطون سعادة

قَلّ أن أثار زعيم ومفكر عقائديّ مشرقيّ، من غبار التأييد أو الاعتراض، مقدار ما أثاره خلفه أنطون سعادة، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي. لكن اشتداد الخلاف حول فكره وتجربته السياسية، لم يمنع الجميع من احترامه وتقدير فكره الإشكالي، وهو الذي قدم أطروحة بالغة الأهمية في علم الاجتماع السياسي، كما أن رفضه المساومات وصموده الصلب في وجه الأعاصير، قد حوّله بالنسبة إلى محازبيه ومعتنقي فكره، إلى أيقونة حقيقية أكسبتها محاكمته الصورية وإعدامه الشبيه بالاغتيال، هالة من القداسة عصيَّة على الإمحاء. وإذا كانت هذه الهالة هي مصدر الصعوبة في الكتابة عن الجانب العاطفي من شخصية الزعيم، الأمر الذي قد يثير ريبة البعض من العقائديين القائلين بتنزيه رموزهم عن الأهواء «الأرضية» العارضة، فقد وجدتُني على العكس من ذلك، معنياً بإماطة اللثام عن الجانب العاطفي المرهف من شخصية الرجل الذي تم إخفاء رقته خلف صورة نمطية بالغة الجدية والصرامة. وقد اتضح لي من خلال رسائله إلى إدفيك جريديني، أن وراء تلك الملامح الصارمة للقائد السياسي، كان ثمة قلب دافئ يهتز لأقل نأمة حب أو تنهيدة شغف أو هبة ريح.

ولقد أكد سعادة من خلال مواءمته الناجحة بين صلابة الموقف ورقة المشاعر، الوجه النموذجي لثنائية الفروسية والعشق، أو الحب والموت، التي جسدها عنترة العبسي في توزعه الضدّي بين لمعان السيوف ولمعان ثغر الحبيبة، كما اختزلها أبو فراس الحمداني بقوله: «نحن قوم تذيبنا الأعين النجل، على أننا نذيب الحديدا»، ثم أعاد الشاعر الإسباني غارسيا لوركا صياغتها على طريقته في وصف صديقه مصارع الثيران بالقول: «كان قاسياً مع المهاميز ولطيفاً مع السنابل».

والواقع أن عملَي سعادة القصصيين «عيد سيدة صيدنايا» و«فاجعة حب»، اللذين كتبهما في أوائل ثلاثينات القرن الفائت، قد جسدا الانسجام التام بين آرائه النظرية وسلوكه الشخصي. فالصورة المثالية التي رسمها المؤلف لبطله إبراهيم، «المحب لله حباً خالياً من الرهبة والمعتني بقوته البدنية»، والذي أحب نجلا ووعدها بالزواج ووفى بوعده لها، هي نسخة مطابقة عن سعادة نفسه في علاقته بالدين ونظام القيم والوفاء بالعهود. وفي «فاجعة حب» تنقسم شخصية سعادة بين الراوي نفسه، وبين شقيقه سليم، الذي رفض الانجرار خلف غرائزه الشخصية واهباً نفسه للموسيقى والفن، كما لحب دعد التي لم ير أهلها في زواجها منه ما يجلب لها الثروة أو الجاه، وصولاً إلى موته المأساوي تحت ضربات الحمى.

ولم يكن انتصار سعادة لقضايا المرأة ودفاعه الشرس عن حقها في العلم والحرية والعدالة، لينفصل بأي حال عن إيمانه الراسخ بدورها الريادي في تربية الأجيال المتعاقبة، كما في تهيئة الأمة السورية للخروج من وهدة التخلف والتشرذم ومساعدتها على النهوض. وهو ما يفسر تعاطفه مع مي زيادة التي زجّ بها في مصحٍّ عقليٍّ بفعل مؤامرة مدبَّرة من بعض أقربائها الجشعين، ودوره الحاسم في إنهاء المأساة المؤلمة للمرأة التي لم تنجب سوريا، حسب رأيه، أديبةً بحجمها في القرون الأخيرة، رغم قوله إن استعدادها النفسي كان أقوى وأرسخ من نتاجها المنجز، مؤكداً أن ما كان ينقصها «هو الحافز الموضوعي من أي عمل عظيم أو حدث تاريخي خطير أو فكرة فلسفية سامية».

أما الجانب العاطفي من شخصية سعادة، والذي يقتصر كما يبدو على علاقتين اثنتين، وصلت أولاهما إلى طريق مسدود وتكللت الأخرى بالزواج، فكان يمكنه أن يتوارى خلف ستار سميك من النسيان لولا الجرأة البالغة التي تحلَّت بها الكاتبة والشاعرة اللبنانية إدفيك جريديني، حين عقدت العزم وبعد عقود عدة من غياب الزعيم، على إعلان العلاقة التي ربطت بينهما أمام الملأ. وقد مكّننا كتابها «رسائل حب من أنطون سعادة إلى إدفيك جريديني» من الوقوف على الجانب الأكثر شفافية ونبلاً من شخصية الزعيم، فيما استطاعت المذكرات التي أصدرتها جولييت المير، زوجة سعادة وأم بناته الثلاث ورفيقته في الحزب، أن تضعنا أمام صورة دراماتيكية مؤثرة عن حياتها القصيرة مع سعادة، وعمَّا واجهه الأخير من مكابدات ومكائد، وصولاً إلى تقديم بانوراما شاملة عن إحدى أكثر الحقب خطورة في تاريخ لبنان والمنطقة.

تستهلّ جريديني كتاب الرسائل بالإشارة إلى الصراع المحتدم باستمرار بين العقل والقلب، والذي ينتهي معظم الأحيان بمحق هذا الأخير، ومخاطبة القراء بالقول إن تلك الرسائل هي «ثروة روحية من التراث، أثمن من أن تظل مضمومة بين أوراق الورد وثنايا الحرير». بعدها تتحدث عن تعرّفها إلى الزعيم «ذي الشخصية الفذة التي تشع رجولةً وذكاءً وسط هالة من المناقبية والظُّرف»، وعن لقاءاتهما الأولى بين غابات الصنوبر في بلدة الشوير اللبنانية، وعن مبادرته غير المتوقعة إلى دَقّ اللحمة في جرن الحجر وإرسالها إليها لدى إصابتها بوعكة صحية، وصولاً إلى لقائهما في المغارة الملتفّة على نفسها مثل «دينة الجرّة»، حيث كانت القُبلة الأولى والأخيرة التي تبادلاها آنذاك، الترجمة الحسية الوحيدة لحبهما العفيف والمتعالي عن الغرائز المجردة.

وحيث يحرص سعادة على المواءمة بين مقارباته العقلانية لقضايا الأمة الشائكة، وبين وجيب قلبه الممعن في الخفقان، يكتب مناجياً حبيبته «إنَّ لي رفيقاً بعيداً عني، ولكنني أُحس بتنفسه في تنفس الأمواج، وأرى ضياء عينيه في تألق الكواكب، وأراه وجهاً لوجه في هذا التصميم الداخلي العميق الذي يجمع بين نفسين جمعاً لا تفريق بعده». وإذ يلحّ آنذاك على فكرة السفر إلى أميركا اللاتينية، بحثاً عن دعم بشري ومادي يكفل لحزبه الصمود في وجه الأخطار، لا ينفكّ يذكّر إدفيك بأن أكثر ما يشد من أزره هو مرافقتها له في رحلته كما في حياته برمّتها، متوجهاً إليها بالقول: «أنا لا أطيق السير في العالم وحدي، فما قيمة المسرات التي لا تشاركينني بها؟». واللافت أن سعادة الذي فوجئ باعتراض شقيق إدفيك وأمها على سفرها معه وارتباطها به، ولأسباب تتعلق باختلاف الدين والخوف على مستقبل الابنة، لم يحاول أبداً أن يستخدم سلطته المادية والمعنوية للضغط على العائلة وثنيها عن مواقفها. ومع أنه كان موقناً من حب إدفيك له، فهو لم يشجعها على التمرد، لأن المسألة بالنسبة له كانت مسألة حب وحياة لا مسألة تمرد، مؤكداً أن «الحب هو الرابطة الأساسية لا الزواج، وأن الزواج يكمل الحب ولا يكمل الحب الزواج».

 

إدفيك جريديني

 

ومع أن سعادة كان يحرص باستمرار على وضع العواطف الشخصية في المرتبة الثانية بعد قضيتيه الكبريين، الأمة والحزب، إلا أن رسالته السابعة عشرة إلى إدفيك شكَّلت المنعطف الحاسم الذي قرر معه إمساك زمام المبادرة بنفسه، فكتب بلا مواربة «أجزم بأنني أحبك، ولكن حبي لك ليس محور حياتي، بل سوريا هي المحور». وبعد أن يذكّرها بالقسَم الحزبي الذي أكد خلاله منح نفسه بكاملها لأمته السورية، يعود للقول: «إن مجرى حياتي آخذٌ في إيقاظي إلى المصاعب الكبيرة والصغيرة التي تقف في طريق زواجي ممن أحب الآن. لقد كانت الصعوبات من جهة أهلك، والآن أرى الصعوبات من جهتي، كأن حياتي يجب أن تكون تضحيات في تضحيات». أما رسالته الأخيرة المؤرّخة في الرابع عشر من أبريل (نيسان) عام 1938، فبدت بمثابة اعتراف نهائي بانسداد أفق العلاقة وبوجوب الفراق، مع تأكيد بقاء الصداقة والذكريات.

لم تلبث إدفيك جريديني بعد انتهاء علاقتها بسعادة أن تزوجت من المهندس توفيق شيبوب الذي التقته في البصرة عام 1940، ورحل في أوج شبابه تاركاً على عاتقها طفلين اثنين. وهي تروي في مقدمة كتاب الرسائل أن الزعيم طلب زيارتها، إثر عودته من المهجر الأميركي عام 1947، ولكنها آثرت تحاشي اللقاء، رغم الصراع الذي نشب داخلها بين الإرادة والعاطفة، متذرعةً بالقول: «إن الزعيم محب عنيد وله زوجة وطفلتان، وأنا امرأة عزلاء أعيش على ذكرى حبيب غاب، وكلانا بشر وعُرضة للحظة ضعف. فماذا لو انتفض حبنا مطالباً بحقه في الحياة؟». أما بخصوص رسائلها العاطفية إلى الزعيم، والتي أُتلفت بقرار من سعادة نفسه درءاً لتبعاتها على الطرفين، فلا تتوانى صاحبة «البيت الدافئ» عن إبداء ندمها على إتلاف مسودات تلك الرسائل، تلافياً للتبعات نفسها، كما قالت.

وإذ تجدر الإشارة أخيراً إلى أن إدفيك جريديني شيبوب، التي رحلت عن هذا العالم عام 2003، قد أصدرت غير عمل أدبي ومجموعة شعرية، فلا بد من الإشارة أيضاً إلى شغف سعادة بالشعر واهتمامه البالغ بتجارب الشعراء، وبخاصة المجددون منهم، مشيراً إلى الفوارق الكثيرة التي تميِّز النثر الشعري عن الشعر المنثور. أما سعادة الشاعر فقد ترك لنا نصوصاً عدة ناضحة بالحب والوله العاطفي الرومانسي، وهو القائل في إحدى مقطوعاته:

لقد قضى ذيّاك الربيع الذي ليس لنا

فأزهاره غير أزهارنا

وفجره غير فجرنا

ولذا لا تنبّهي الأحلام

لا تذكري شيئاً مما مضى

فإذا اضمحل الحب فماذا يبقى من الحقيقة؟

إدفيك جريديني وأنطون سعادة: علاقة مشرقة أوصلتها الظروف إلى طريق مسدود

جريدة الشرق الاوسط