يقول أندرياس فيستاد في كتابه «عشاء في روما» (ترجمة ليلى البدري)، إنه في أول زيارة له إلى روما عكف يحملق في كل ما هو حوله، وعندما اعتاد على فكرة النظر للمدينة من خلال زوجته عالمة الآثار، تعلم أن ينصت لتاريخ روما، كما يروى عبر مبانيها وأطلالها، وهو يؤكد عبر كتابه أن التاريخ يستطيع أن يتحدث إلينا من خلال الفن والبنايات والحصى والأطلال، ببساطة شديدة من خلال وجودك داخل مدينة تحوي بين جنباتها قدراً كبيراً من الماضي.
يقول المؤلف بطريقته الخاصة: «من الخطأ أن نقول إن الطعام شيء عابر وسريع الزوال، في حين ننظر إلى الحصى والتماثيل الرخامية باعتبارها شيئاً خالداً، وأنها الشيء الوحيد القادر على سرد قصص الماضي، أنا مقتنع أن التاريخ هو الآخر حاضر، ربما بدرجة أكبر في الطعام الذي نتناوله».
*سرد
يؤمن المؤلف بأن الطعام يمتلك القدرة على سرد الرواية التاريخية بطريقة أخرى، والتحدث حول المكان الذي أتينا منه، وكيف كنّا نعيش وما الذي حفزنا وألهمنا؟ وهذا الكتاب يتحدث عن عشاء في أحد مطاعم روما في يونيو 2018 إنه كتاب عن أصل أعظم طبق في العالم.
يتحدث المؤلف عن الخبز من خلال كتاب عنوانه: «ستة آلاف عام من الخبز» يحكي قصة سفر الإسكندر الأكبر إلى مصر لكي يعلن نفسه ابنا لآمون، وأن لا قيصر ولا أنطونيو شعرا بالمجد بنفسه عندما حكما عرش النيل، فهما لم يكونا يريدان أي شيء سوى الحبوب، ومصر كانت أهم مخازن الحبوب للإمبراطورية وكانت بالغة الأهمية لاستقرارها ورفاهيتها، لذلك لم تتحول إلى مقاطعة عادية، بل كانت تخضع لسلطة الإمبراطورية المباشرة.
ادعى البعض أن السبب الحقيقي وراء سقوط الإمبراطورية الرومانية هو نظام الضرائب الذي تسدد قيمته في صورة حبوب، الأمر الذي أدى إلى استنزاف الأراضي الصالحة للزراعة في المقاطعات.
يرى المؤلف أن أحد أسباب اندلاع الثورة الفرنسية في عام 1789 هو ضريبة الملح التي فرضتها فرنسا في القرن الثالث عشر، وفي أشد حالاتها قمعاً كانت ضريبة الملح الفرنسية مرتفعة للغاية، وتخضع لرقابة صارمة، وكان الأمر غريباً، وكانت إساءة استخدام الملح تهمة، يمكن أن يحاكم مرتكبها بالسجن، وفي بعض الحالات الخطيرة كان يحكم عليه بالإعدام.
*الجانب الآخر
على الجانب الآخر من العالم في الصين تحديداً فرضت ضريبة الملح والرقابة الحكومية الصارمة على الملح منذ عهد أسرة هان في العقد 100 قبل الميلاد، في بعض الفترات شكلت ضريبة الملح أكثر من نصف عائدات الدولة الصينية، ويقال إنها قدمت معظم التمويل المستخدم لبناء سور الصين العظيم.
في الهند فرض البريطانيون ضريبة وحشية على الملح واحتكرته الدولة في مطلع القرن التاسع عشر كوسيلة لتمويل إدارة الإمبراطورية.
ظهرت التوابل في أوروبا عام 500 قبل الميلاد وكانت المصادر الأولى عن وجودها هناك تأتي من اليونان، أضافت التوابل نكهات لا تشبه أي شيء آخر اختبرناه في الطبيعة هذا الغموض أعطى التوابل بعداً إضافياً، كانت تجارة التوابل واسعة النطاق منذ ألفي عام، كانت تباع للتجار المحليين في البداية في موطنها الأصلي الهند، ولاحقاً في بلاد الشرق.
يشير المؤلف إلى أن استخدام الليمون في الماضي كان مقصوراً على صناعة العطور وبعض العلاجات، ولم يكن مرغوباً فيه بسبب حموضته، ولم يكن قابلاً للأكل، وكان الصينيون أول من زرع الليمون، على نطاق واسع، ولم يصل إلى أوروبا إلا حين أحضره العرب معهم في القرن التاسع أو العاشر، كانت أشجار الليمون مطلوبة، لكن من الصعب زراعتها، لأنها تطلب مناخاً خاصاً جداً، وتربة خصبة لإنتاج محصول ذي جودة تجارية.
كان العرب يسيطرون على أجزاء كبيرة من جنوب البحر الأبيض المتوسط، ووجدوا أشجار الليمون تزهر في أجزاء محدودة للغاية من مملكتهم، فتم زراعة مساحات واسعة من بساتين الحمضيات حول صقلية وباليرمو، وازدهرت تجارة الليمون حتى بعد هزيمة العرب في شمال البحر الأبيض المتوسط وإجبارهم على مغادرة صقلية، ومنذ عام 1795 أصبح الليمون نمطاً غذائياً لدى البحارة.
*عصابات
بحلول منتصف القرن التاسع عشر أصبحت صادرات الليمون من أهم مصادر الدخل في صقلية، وظهرت عصابات الجريمة المنظمة «المافيا»، وكانت زراعة الليمون أكثر ربحية من أي نشاط آخر، وفي العقود التي تلت توحيد إيطاليا في ستينات القرن التاسع عشر، حتى بداية القرن العشرين، نجحت المافيا كشبكة معروفة في التوسع من عصابة من المجرمين المحليين إلى منظمة قوية لها يد في معظم الأحداث.
يرى المؤلف أنه من الصعب تخيل العالم من دون سكر، وقد وجد السكر طريقه إلى أوروبا، باعتباره رفاهية للأغنياء بجانب الفلفل والتوابل، لقد أحضر العرب قصب السكر إلى أوروبا مثل الليمون خلال العصور الوسطى، وكما هي الحال مع الليمون كان من الصعب إيجاد مكان مناسب لزراعته، لأنه محب للشمس ويحتاج إلى عمالة كثيفة، ومع ذلك غير الغزو الأوروبي لأمريكا الأمر، فقد أدار العبيد مزارع السكر من أجل تلبية الطلب الأوروبي الذي لا ينتهي، وبحلول القرن العشرين أصبح السكر رخيصاً لدرجة انه بدأ ينتشر في كل مكان.
إن ما نتناوله يغير هويتنا جسدياً وعقلياً، فالطعام هو القوة الدافعة السرية للتاريخ، لقد منحنا القوة والطاقة وأثار فضولنا الجماعي، منذ أول وجبة قمنا بشيها على النار.