ذاكرة التراث

حارب الظاهري

جميل من الإنسان صنع ذاكرته وأحلامه، ليستعيد ألق الأيام الماضية إلى حاضره، يغرزها بالزمن، يورد نسيجها المهم والملهم، محافظاً على الأمكنة القديمة، ليجدد حضورها وتراثها وتاريخها، لتغدو للأجيال ذاكرة، وتخبر بما تخبئ من أسرار، وما تسبر من تفاصيل صغيرة، وما يرتسم في الأمكنة القديمة، بهويتها ونسيجها الجميل، في ذاكرة الحياة والناس، وفي خلجات أنفسهم، فهي لزمنهم كالمرايا الساحرة، تسطع في وجودهم تخبرهم، بما مر من أثر خطوات البشر، وما مر من وجوه الناس ربما غيبتها الأيام، إلا أنها ما زالت وجوهاً بعين الأمكنة، تزهر وتسجل بماضيها فضاء فكرياً وثقافياً.
مبادرة حماية التراث، بحصر قائمة المواقع الأثرية، من قبل دائرة الثقافة في أبوظبي، مبادرة لا شك، تحمل روح الأصالة، في إمارة تهتم بالتراث منذ القدم، تراثها الممتد، من البحر إلى الصحراء، وثمة ما تبقى شامخاً، وجماليته المقرونة بالثقافة المعاصرة. وإذا عرجنا إلى ذاكرة مدينة أبوظبي، تكمن الأصالة في كل أحيائها القديمة كالروضة والكرامة والبطين والخالدية والمنهل والمشرف وغيرها، وبعضها حدّثت وسميت بما يواكب التطلعات، وربطت بتراث المدينة وشخصياتها الحضرية والثقافية العريقة.
كانت ذاكرة المدينة في أسواقها القديمة، ومعالمها الباقية، التي لم تضمر أمام الزمن. مدينة مزدهرة بنسيجها الحضري الجميل وبساطها الأخضر، تتنفس بنهوضها وتشكلها واتساع رقعتها، شرقاً وغرباً، مع تفرد المسارات والطرقات والممرات الحديثة. مدينة تستقي من وجودها الهدوء، فبعد يوم صاخب ومحمل بالجد والعمل، لا بد أن تحملك الاتجاهات، نحو السعديات أو الريم، أو تحلق فوق جسر الحديريات، فالبحر كفيل بأن يسترد لك ذاتك، وحيوية التفكير التي تبتغيها، ويمدك بنسمات تلامس أنفاس أمواج البحر المنعشة.
مبادرة الحفاظ على الموروث التراثي، تمدك بالشوق نحو السوق القديم، صور ما زالت تستمد حضورها، بين مواقع المحتوى الثقافي والاجتماعي، تتناغم مع ذاكرة الناس، صور لا تحيد عن معالم جميلة وراقية، وفي تداول مستمر، صورة لنافورة أبوظبي الشهيرة بقلعة شامخة، تخاطب البحر برذاذها، يختلج من ظلال أشجارها السحر، وتنبت من الورود أجملها، متباينة بين سندسها الأخضر السكينة والارتياح. وقبيل الغروب تطوف حولها أشرعة السفن والمراكب، تغتسل بملوحة البحر، فسيفساء من زرقة السماء، أقصى علو في قلعة، تشاهد أجنحة الطيور البيضاء المهاجرة، تحلق عالياً، وتشرع مناقيرها بمهارة وخفة، صيدها من السمك يغنيها عن ملاحقة أشرعة السفن، قلعة حاضرة في ذاكرة المدينة والناس، تستعيد حضورها المتجدد لأنها تستعصي على النسيان، بل إن بعض أمكنة المدينة هي جزء من الإبهار التاريخي، الذي يتجدد في روح المدينة وذاكرتها، ولا ينبغي له إلا أن يتجسد في كل لحظة ومَعْلم وصرح عمراني جميل.

ذاكرة التراث

جريدة الاتحاد