ابن سينا عريس «معرض أبوظبي»

IMG_9524

كان ابن سينا من أكثر الفلاسفة حضوراً في التّاريخ الثّقافي العربي قديماً وحديثاً، ولم يكن تأثيره هيّناً في التّاريخ اللّاتيني، ولذا كان الاحتفال بـ«الشّيخ الرئيس» في معرض أبوظبي الدولي للكتاب مناسبةً لإحياء ذِكْرى، من كان معروفاً عند اللاتين بـ«أمير الأطباء»، ومناسبة للتّفكير في راهنيته اليوم.
أسّس ابن سينا منظومة فلسفية في مشروعه «الشّفاء»، و«الإشارات والتّنبيهات»، «والقانون»، وما تفرع عنهما من كتب ورسائل. ولعل تأثيره الكبير، على مسار الثّقافتين العربية واللّاتينية، يرجع إلى إعادة صياغته إرث الفارابي صياغة جديدة تتميّز بكثير من الجدّة، في خروجٍ عن المشّائية، ولكن من داخلها وأعماقها، كما لاحظ ابن طفيل.
لعل أول ما يلفت الانتباه في سيرة «المعلم الثالث» أن الرجل كان رجلَ المُفارقات، فابن سينا كان يعشق الحياة ويعشق الكمال في ذات الوقت. وبين عشق الحياة، وتُحرِّكُه الرغبة، وعشق الكمال، ويُحرِّكه الفكر والعرفان، مسافات اختُزِلت في حياة ابن سينا. والرجل كان مدركاً أن العلم في زمانه قد اكتمل، ولكنّه كان حريصاً على الإبداع، وبين التّقليد والإبداع مسافات اختزلها الشّيخ الرئيس في شخصه. إن حياة ابن سينا تُفصح عن خصال فلسفية قوية، وهي خصال تأثَّلتْ له من طفولته، من أهم هذه الخصال خصلة الحرية، فابن سينا، وهو طفل، لم ينصعْ لدعوة أبيه للدُّخول في الإسماعيلية، لكن سيكون فضاء أبيه العلمي، فرصة له ليمارس حريته الفلسفية، فقد اتّخذ مسافة نقدية بينه وبين الأفكار، يُحسن الفَهْم والحِجاج، ولا يقبل إلا ما رضيه عقلُه. كما كان الرجل عاشقاً للكتاب، لا يبغي عنه جاهاً ولا ثروة، فعندما عرض عليه الأمير السّاماني مكافأته مقابل شفائه من مرض القولنج، لم يجد ابن سينا شيئاً ذا نفاسة يطلبه سوى أن يأذن الأمير بفتح باب خزانته السلطانية له، فقد كانت حياة ابن سينا رفقة الكتاب والقرطاس والقلم. لم يكن فيلسوفنا يزهد في كتاب استعصى عليه، وأبرز مثل على هذا قراءته لكتاب «ما بعد الطبيعة» لأرسطو أربعين مرة دون أن يستطيع فهمه، حتى عثر على كتاب الفارابي في الموضوع ففتح له مغاليقه. ولعل ما وقع له مع كتاب أرسطو أن يكون تكرر له مع غيره من الكتب، فقد كان الرجل لا يمل من قرع أبواب التّعلم.
لكن لعلّ أهم ما أسهم في جعل الذّهنية «السينوية» ذهنية فلسفية متميزة علاقتُه الطّويلة بالطب، كتابة وممارسة. فقد أخرجه الطبُّ إلى الواقع، وفتح عينيه على عالم التجربة، وقد ظهر ذلك التّأثير في اجتهاداته المنطقية وفي أثرها على اختياراته الفلسفية، دون أن ننس العالم العرفاني الذي تقلّب فيه، والذي أخرجه من «ضيق» النّص الأرسطي، الذي قُدِّرَ على ابن رشد أن يسجن نفسه فيه.
وأخيراً، إننا مدعوون اليوم إلى الاهتمام بابن سينا لعدّة اعتبارات: فَـ«الشّيخ الرئيس» مفتاح لفهم الفلسفة الإسلامية ومسارها عبر تاريخها الطويل، وهو قطب الرَّحى في سبر أغوار العرفان في ثقافتنا العربية الإسلامية أيضاً، ومن دونه يتعذر فهم هذا الاتّجاه الفاعل في حياتنا المعاصرة، ثم إن «الشّيخ الرئيس» نموذج على ما فعله المسلمون بالتّراث اليوناني عندما تفاعلوا معه من خلال تجربة ذاتية خاصة تَقْرأ، إلى جانب هذا التُّراث، القرآن الكريم وواقعَ المسلمين، فكان التّفاعلُ تفاعلَ فعل وإبداع، ولم يكن تفاعلَ انفعال وتقليد، ثمّ إنّ «الشّيخ الرّئيس» مدخل مهم من مداخل الحوار مع الثّقافة اللّاتينية في سيرورتها الكبرى منذ القرن الثّاني عشر إلى القرن الحادي والعشرين، خاصة بعد أن حاوره فيلسوفان معاصران: مارتن هيدجر وجيل دولوز.
*مدير مركز الدراسات الفلسفية بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية.
جريدة الاتحاد