د. عبدالله الغذامي يكتب: رمزية الحاكي

د. عبدالله الغذامي

السرد قيمة، بمعنى أنه يمنح السارد منصةً متحركةً شفيعها أنه ماهر في القص والسرد والحكي، وكما كان بلاط الخلفاء مقصداً للشعراء ومن ثم سبباً لشيوع اسم الشاعر وصناعة تاريخه، فإن السرد كان كذلك، وهذا يشبه اليوم ما يسمى بالأكثر مبيعاً الذي هو ليس تتويجاً للمؤلف فحسب، بل هو مكاسب كبرى لدار النشر التي يتحقق لبعض كتبها بلوغ درجة الأكثر مبيعاً فتكسب، ولهذا تسعى دور النشر للدفع بأي كتاب تتوقع أنه سيحظى بمبيعات عالية، وكذلك تم تدشين جائزة البوكر، وهي فكرة من الناشرين أنفسهم وضعوها لتنشيط المبيعات، وابتكروا فكرة القوائم الطويلة، ثم القصيرة، وهذا ما يتوج التسويق والإشهار باسم فائز أو فائزة ما، وفد كانت تقاليد الخلفاء أن الخليفة أول ما يبايع يفتح باب ديوان الخلافة للشعراء في توقيت محدد لكي يتقاطر شعراء العصر لنيل المال والشهرة، خاصةً لو حظي الشاعر بكلمة من السلطان تطير بها الحكايات إلى كل مجلس ومنتدى، وكثيراً ما يبتكر الرواة قصصاً عن مواقف الشعراء بين يدي الولاة، وهذه كلها ترويج للراوي نفسه بمثل ما هي ترويج للمحكي عنهم، وكانت مجالس الخلفاء تعمر بالحكائيين الذين يمهرون في السرد الشفاهي ويمتعون المجالس ويخففون على السلاطين أثقال الوقت والعمل، ويجدون بذلك حظوةً ومالاً وشهرة، ولذا يجتمع الشعر والحكي معاً في مجالس ذوي الجاه، وهذا مصنع هائل يحفز القرائح لابتكار الآداب والفنون، ومنها قصور ملوك أوروبا التي تزينها لوحات الفنانين بمثل ما يزين الشعر والحكي مجالس الخلفاء العرب، وسيتجاوز الحكي المجالس إلى بطون الكتب مثل أعمال الجاحظ والأصفهاني وكتب العصر العباسي في ذروتها المبكرة، ثم في تعاقب تدوين الحكايات وابتكار حكايات تنسب لمن تليق بهم النسبة، وحكايات كتاب الأغاني هي رصد لأحاديث المجالس في زمنه مما كان يجري تداوله ويشيع بين الناس في ذلك الزمن، ولولا الأصفهاني وجرأته ووثوقيته بفعله لضاعت قصص مهولة عن أزمنة الشعر والغناء وثقافة الإمتاع، ولم تعجز النساء عن ابتكار حكاياتهن وأشهرها حكايات ألف ليلة وليلة التي سجلت الذاكرة النسوية في زمن كان اسم المرأة عورةً وصوتها عورة ومشاعرها عورة، ما جعل ألف ليلة وليلة تقوم على حيلة سردية تروي قصة عن امرأة افتراضية تمثل قناعاً تتوسل به الأذهان لتقص ما يعتلج في النفوس، ولذا فالحكي قوةٌ ناعمة تواجه القمع الذكوري والإسكات، وتكسر قيود الثقافة المهيمنة، وإن كان مدونو الحكايات رجالاً، ولكن التأليف نفسه نسوي، وأثر النساء ظل مخبوءاً في تلافيف الحكايات، يظهر رغم التشويه الذي جرى لحكايات ألف ليلة وليلة، ورغم محاولات طمسها والتقليل من قيمتها، لكنها ظلت حيةً وتزداد حياةً مع كل مسعى لقراءتها قراءة تشريحية تكشف مضمرات النص.

د. عبدالله الغذامي يكتب: رمزية الحاكي – بقلم
جريدة الاتحاد